أسماء سعد في دمٌ كذب نافذة لا بدّ منها في السّور الكبير

نشر في 07-08-2009 | 00:00
آخر تحديث 07-08-2009 | 00:00
No Image Caption
في مواجهة نصوص ما يسمّى بالشّعر الحديث أو الحرّ، لا يزال السؤال البسيط الذي يطرح نفسه هو: كيف يكون النثر إذًا؟ في إصدارها الجديد، المصنَّف شعرًا، «دم كذب»، وفي قصيدة «مجنون عاقل»، تقول أسماء سعد: «أراد أن يعرف بنفسه / كيف تكون / حكمة المجانين / فعرف ذاته». لو ورد هذا الكلام بإخراج طبيعيّ آخر، كالذي يُعتمد للنثر، وأعطته سعد هويّة النثر، خسر هويّة الشّعر وصار نثرًا.

هذه المعادلة المرتكزة على الإخراج الطباعي، من سخيف القول أن تستطيع تعيين الكلام نفسه شعرًا ونثرًا، لأنّه لا يمكن أن يكون إلا واحدًا منهما. والمؤسف، أن الكثيرين يسيئون إلى النثر الفنّي، فيتجاهلون وجوده الإسميّ، ويعتمدونه نمط كتابة ويسمّونه شعرًا. فلماذا لدى هؤلاء الكثيرين خجلٌ بالنثر الذي وقف على شرفته أعلام لا ينال من قناطرهم عنكبوت النسيان، أمثال أمين نخلة وجبران خليل جبران...

ويرى بعضٌ من أهل الشّعر المتفلّت من أيّ شرط أو قاعدة أنّ النثر يضيق صدره بكثرة المجاز، لا سيّما حين يتجه هذا المزاج نحو الرمزيّة المغلقة والإبهام، وبكلام أوضح: الطلسمة. وحقيقة الأمر أنّ النثر يتّسع، لكنّ الطلسمة عدوّة النصّ شعرًا أو نثرًا، وليست هي التي تحدّد هويّة النصّ. في قصيدة «خارطة»، تقول سعد: «النّسر / يتصفّح العالم/ ويرسم بلون أحمر / وجهًا جديدًا / وهو يشرب فنجان القهوة... / تمسح النخلة / حذاءه بدمع ملتهب / فبات سواده أنصع بياضًا / من عيون النخيل!». فليسلّم القارئ جدلاً أو اقتناعًا أنّ هذا النصّ قصيدة، فكيف السبيل إلى فكّ رموزه واختراق ضبابيّته الكثيفة للاهتداء إلى المعنى المراد؟ يبدو هذا النّسر مثقفًا ورسّامًا، لكنّ الوجه الجديد الذي رسمه هو لمن؟ له أم للكون؟ وما هي النخلة أو من هي؟ وما معنى أن تمسح حذاء بدمعها؟ وما معنى أن يصير سواد الحذاء أو النسر، أنصع بياضًا من عيون النخيل؟ هذه الطلسمة المقصودة تعطّل النصّ وتمنعه من قول ما يريد أن يقوله، والغرابة في التعبير الآتية بجديد على مستوى الترميز والصورة الفنّية ليست دائمًا محكومة بالتوفيق والنجاح، فهي ناجحة حين تترك مجالاً للملتقّي / فينفعل ويتأثّر ويفهم ويُعجب... وهي فاشلة حين تضعه أمام حائط أسود فترتبك بوصلة مشاعره، ويتعذّر عليه الانفعال والتفاعل، ويبقى التساؤل على بساط عقله الذي عبثًا يبحث عن المعنى...

تبدو الشاعرة أسماء سعد في جديدها «دم كذب» ناشدة عمق الإنسان، مأخوذة بألم المعاني النبيلة ونقاء القيم المضطهدة. في «الحسناء والوحش»، تغمز سعد من قناة الرجولة الشرقيّة: «حمار وحشيّ يتبختر فوق أكتاف رجولة خصيّة. تحمله عربة مزيّنة بالورود، وتجرّه حسناء، والوحش يشدّها إلى الخلف، يقضم من جسدها قطعة...». هذه الحسناء تحتضن برمزيّتها واقع المرأة الشرقيّة التي لا يحتفَل بها إلا وليمة جسد، غير أنها في آخر النصّ استقالت من جرّ العربة ومملكة العبيد، لتبحر في اتجاه ذاتها: «الحسناء لم تعد كذلك». وما نصّ «إجهاض» سوى احتجاج على فساد العالم الذي تقمّصه الهواء الناهش رؤوس الأشجار. وجميل قول سعد: «الأرض يلجم فاها الراعي / يجزّ صوفها الأخضر / كلّ يوم»، هذه الأرض الخاسرة جمالها مع كلّ طلعة شمس تؤلم سعد، وتجعلها ترى السلام حنينًا لا يمكن أن يبقى في رحم الأرض إلى حين اكتماله، وعليه، فإنّ: «الإنسان يجرّ خلفه بقايا أمم ومزابل»، ولا يملك شجاعة الفعل والوجود، إنّما يأسره الماضي ليكون صدى من أصدائه السُّود.

وفي نصّ «عتمة» تواصل سعد ألمها من الماضي: «أرواح عائدة / تخترق جدران الكائن الضعيف / ولا تطردها أيّة تعويذة». فالمسألة إذًا هي في جعل ما مضى يمضي فعلاً، وفي إغلاق النوافذ التي تدخل منها الأرواح المصنوعة من غبار الأمس، وفي هذا السياق تصرخ الشاعرة مستنجدة بمجهول: «اجعلني أتقيّأ الفراغ الأسود / القابع في عيوني»، فهي تريد تحرير نفسها ابتداءً من العينين اللتين هما مدخل العالم إلى ذاتها، وكم هو هذا الفراغ الأسود قادر على صبغ كلّ شيء بسواده إذا ما استمرّ محتلاً العيون.

وليست سعد ببعيدة من الجوع يفترس الأطفال متّخذًا إيّاهم دمى متألّمة له، ففي «خبز قليل وفراش واسع» ترى الليل يبكّر في الوصول ويبدأ بعد الظهيرة حين يحظّر على الفقراء التجوّل: «عقارب الساعة / كفّت عن العمل / الحائط مائل / ولا يوجد تحته كنز». حتّى الزمن يتضامن مع فقراء سعد، فتتقاعد عقارب الساعة لأنّ جدارًا، ربّما هو جدار الحياة، على وشك الانهيار، إذ لا رغيف يسنده فيلجم وحش الجوع عن ملايين الأطفال ذوي الفراش الواسع والخبز القليل. لا تذكر الشاعرة أسماء أماكن، ويظهر نصُّها، ذو البعد الإنساني، عامًّا، يرافع عن مظلومي الأرض غير مشير بالإصبع إلى مكان أو زمان.

وبين ضفّتي الجسد والروح تقف سعد مدافعة عن نبل الروح غير متّهمة الجسد، ففي «نافذة» تقول: «نذرتُ آمالاً... أنثرها في وجه الكون ليقرأ جسدي فيما أطلّ أنا من نافذة الروح». ولهذه المعاني امتداد في «انتظار» لتعلن الشاعرة أنّها في انتظار رجل هو رسول السماء إليها: «يرفع عن جسدي / خناجر مسمومة». جسدها عقدة شرقيّة. جسدها الملاحق بتهمة الخطيئة والعار، فقط لأنّها امرأة. لكنّ هذه المرأة ذات نفس نضاليّ طويل، تراهن على أنّ بناء السدّ يبدأ بحجر، وهي تنشد هذا الحجر، كذلك تنشد أرضًا متوّجة ببياض الروح: «أنتظر سفينة / تأخذني إلى أرض لم تفضّ بكارتها الخطيئة». وسعد تعلم تمامًا أنّ التمرّد على غرائز القطيع لا ينتهي، حكمًا، بالوصول إلى نشوة الحريّة، وعلى رغم ذلك تستمرّ شاهرة صوتها وقلمها، كما في «كلّ الطرق تؤدّي»، تقول: «حتى ابتلعت كلّ أقراص التمرّد / فالنتيجة دومًا واحدة / كلّ الطرق تؤدّي / إلى ذاك القطيع».

وفي «الغائب» تواصل سعد مسح عيون الشرق وغسلها بماء التمرّد: «انثرْ قبلاتك / على شفاه المحروم / لا تعبأ بالواعظ / وتحدّى حرّاس الجنّة». وليتها سمحت لأحد خبراء اللغة بقراءة كتابها، لكانت نجت من بعض السقطات اللغويّة التي لا تُغتفر، فالفعل «تحدّى» بصيغة الأمر، يكتب بلا ألف لأنه مبنيّ على حذفها. وتقول أيضًا: «تذوّق / كلّي طعمه حلوٌ! / واسمعْ نحيب قدر يبكي / يرجو ميلادًا مختلفًا...» تريد سعد أن تكون امرأة لا تكتمل إلا بحرّيتّها، وجسدها ليس خطيئة تحملها على كتفها من أوّل الدنيا...

«دمٌ كذب» مجموعة نصوص أدبيّة فيها ما هو طاعن في الطلسمة وأساء ظلامه إليه، وفيها ما هو عاديّ ويحتاج إلى تفعيل شعريّ، إذا جاز التعبير، وفيها ما هو يتّصف بالجودة والنجاح ويتميّز بتوزيع الظلال والضوء في النصّ بشكل مدروس، فلا يسقط تحت وطأة ضبابيّته ولا يغتاله الوضوح المبتذل.

back to top