دخول التاريخ من بوابة حديقة الحيوان!

نشر في 02-08-2010 | 00:01
آخر تحديث 02-08-2010 | 00:01
لم تخل أحداث الغزو الصدامي الغاشم لأرض الكويت من أحداث تروي ملاحم بطولية في شتى المناحي، فكما كانت هناك مقاومة مسلحة أقضّت مضجع المعتدي، كان هناك تنظيم للحياة المدنية لا يقل عن تلك المقاومة، إذ سارع كل أبناء الكويت المخلصين إلى تنظيم كل مناشط الحياة، وتسيير الأمور لتوفير المأكل والمشرب للكويتيين الصامدين في أرضهم.

ولم تكن حديقة الحيوان بمنأى عن تلك الملاحم البطولية، إذ كانت شاهداً على نموذج من نماذج الرحمة والرأفة مثله ثلاثة من أبناء هذا البلد المعطاء، وليس هناك من هو أجدر بالحديث عن تلك الملحمة من عايش وقائعها، ألا وهو الكاتب سليمان الفهد الذي يسرد وقائع تلك الملحمة من خلال السطور التالية:

حين طلب مني الصديق الزميل د. غانم النجار المساهمة في هذا الملف الصحافي المكرَّس لذكرى الغزو والاحتلال تداعى الى ذاكرتي: الجندي المجهول، المواطن الشاب سليمان الحوطي الذي اختار وبادر إلى إنقاذ البقية الباقية من حيوانات حديقة الحيوان في العمرية. ولأنه مازال جندياً مجهولاً، ارتأيت ان تكون خواطري عن الغزو محصورة في فعله الفروسي النبيل الذي أدخله وصحبه إلى بوابة التاريخ من بوابة حديقة الحيوان، كما عنونت مقالتي عنه في افتتاحية صحيفة 26 فبراير التي صدرت بعد التحرير ولم يكتب لها الاستمرار لأسباب قمعية لا مجال للخوض في تفاصيلها المذكور بعضها في الجزء الثاني من كتابي "شاهد على زمان الاحتلال العراقي في الكويت".

  مبادرة إنقاذ الحيوانات

إن سليمان الحوطي، رحمه الله، هو مولى المبادرة الساعية لإنقاذ الحيوانات، لكنه استيقن أن أداء هذه المهمة الإنسانية بمفرده سيكون عصياً عليه فانضم اليه شقيقه علي، والمختار الشعبي لمنطقة كيفان عبدالله عبدالقادر تيفوني، وهكذا صار من المألوف مشاهدة هذا الثلاثي في الصباح الباكر، وهم يقودون سياراتهم المحملة بالطعام، الذي يسد رمق الحيوانات، التي ظلت على قيد الحياة، وسلمت من عدوان وافتراس جنود الاحتلال الأشاوس.

وقد ذكر لي سليمان الحوطي، رحمه الله، أن عدد الحيوانات كان 5 أسود، و3 ذئاب، ونمرين، و3 دببة، وفرس نهر، وجاموستين، و1 2 قرداً، وحيوان اللاما، وأنثى الفيل، وبقرة واحدة.

وفي سياق احتفاء "سليمان الحوطي" وصحبه بالحيوانات يذكر أن الجنود المحتلين الذين كانوا يطوقون الحديقة، يتنادرون عليهم ساخرين من نجدتهم للحيوانات بدعوى أنها لا تستحق ذلك أبداً.

  ثلاثي فروسي

وأحسب أن سخرية المحتلين ليست مجانية، بل متكئة على غياب ثقافة الرفق بالحيوان من نسيج عاداتنا وتقاليدنا المتبدية في حياتنا اليومية، لكن الثلاثي الفروسي النبيل لم يعبأ بردود الفعل السلبية تجاه فعلهم الإنساني، ولذا يذكر سليمان الحوطي أنه لم يحفل بسخرية المحتلين، بل انها حرضته - وصحبه- على مداومة فعلهم، دون كلل ولا ملل لاسيما بعد أن ألفت الحيوانات وجودهم، وباتت تترقب حضورهم بلهفة وشغف شديدين، يصلان إلى حد هطول دموع الفرح، التي تنهمر من عيني أنثى الفيل، المعروف في عالم الحيوان بأنه أكثر الحيوانات إخلاصا ووفاء لزوجه ولمولاه الذي يعلفه ويسقيه ويعنى به، ويحدب عليه، وهي تشعر بفطرتها وغريزتها بالإنسان، والحيوان الذي يكن لها مشاعر عدوانية، ومن هنا كانت تمور وتثور، حين تلمح أحد جنود الاحتلال مدججاً بسلاحه، لا سيما أنه أودى بحياة الغزلان والجمال والوعول وغيرها من الحيوانات النادرة التي افترسها "الأشاوس" بوحشية لا يغبطون عليها.

  الناشطون الصامدون

الشاهد ان الصامدين الثلاثة دأبوا على تأدية دورهم الإنساني طوال فترة الاحتلال، بصمت ينأى بفعلهم عن الإشهار والإعلان، الذي حدث حين بزوغ شمس التحرير التي أضاءت فعلهم، وأفعال غيرهم، كما سنرى لاحقا.

وإذا شئت أن تلحق بي إلى المشهد التالي الحادث في المركز الإعلامي بالجابرية الذي  أقامه الناشطون الصامدون في مدرسة ابتدائية، سلمت من العربدة الهمجية التي عاثت نهباً وتدميراً في البنية الأساسية للكويت المحتلة، فكنت ترى هؤلاء الجنود الثلاثة المجهولين محاطين بكاميرا وكالات الأنباء الدولية، وميكروفونات القنوات الفضائية الإخبارية العالمية، وهم يحاورنهم، على مدى أسبوع كامل، الأمر الذي افضى بهم إلى أن يكونوا مشهورين في فضاء حقوق الحيوان والرفق به، ولم يتخل سليمان الحوطي، قائد حملة إنقاذ حديقة الحيوان عن ابتسامته السمحة الودودة المضرجة بالحياء والإيثار وانكار الذات وذوبانها في العمل الخيري التطوعي النقي المفلتر من شوائب المصلحة الذاتية، والمؤسف أن شهود الزور باتوا يتصدرون المشهد الإعلامي، بينما الشهود العدول، أصحاب الفعل، يغيبون ويتم تهميش دورهم، بعكس ما فعلته وسائل الاتصال الأجنبية الغربية الأوروبية والأميركية، وغيرها! والحق أن شهادة الغير والأجانب لمصلحة الجنود المجهولين الثلاثة هي التي أفضت إلى دخولهم التاريخ من بوابة حديقة الحيوان بالعمرية.

 «شاهد مشفش حاجة»

ومهما يكن من أمر، فإنه لا يصح الا الصحيح، ولو بعد حين، يطول أو يقصر! لكن  السكوت عن شهود الزور الذين يهرفون بما لا يعرفون يستوجب مبادرة الشهود العدول، الى توثيق ونشر شهاداتهم، حتى لا يكتب تاريخ الاحتلال "شاهد مشفش حاجة"! والمؤسف ثانية أنه على الرغم من الاحتفاء الاعلامي المكثف والمتواصل الذي حظي به الفرسان الثلاثة من قبل وسائل الاتصال الأجنبية، لم تحفل قريناتها الوطنية بهم تأسياً بشعارات الأقوال المأثورة الملعلعة بقوله: "لا كرامة لنبي في وطنه، وسط بني قومه"، وأن "مغني الحي لا يطرب"، وما إلى ذلك من تنويعات نشاز تخاصم فعل الرفق بالحيوان وتنفيه!

لكن الذي يعزّي الحيوان العربي هو إحساسه بأنه يحظى بعلف يومي، ومعاملة من مولاه أحسن من الإنسان! ولعله من فضول القول التنويه بأن مبادرة الجنود المجهولين المعلومين الثلاثة قد أكسبت بلادنا صيتاً طيباً في مجال حقوق الحيوان، والعقبى ان شاء الله لحقوق الإنسان!

  مواطن تقي نقي

والحق انه حين يتم توثيق تاريخ الصامدين في الكويت المحتلة فان المؤرخ سيتوقف امام مبادرة انقاذ الحيوانات لما تنضوي عليه من دراما إنسانية-حيوانية حرِيّة بالتوثيق والنشر متلفزة وممسرحة ومسينمة، وما الى ذلك.

رحم الله المواطن التقي النقي الصامد الشاب سليمان الحوطي صاحب هذه البادرة الإنسانية الفذة وأكثر الله من أمثاله، لكونه نسيجاً نادراً يصدق عليه، بمعنى من المعاني، وصف "أمة" القرآني الذي يصف إبراهيم بأنه كان أمة! هل أبالغ في هذا المنحى؟! أيا كان الأمر فهذا رأيي.

back to top