كذبة كرزاي الجديدة
الرئيس الأفغاني غير جدير بالثقة، وحكومته تشتهر بالفساد، ومع ذلك، باركه القادة الغربيون في مؤتمر كابول الذي انعقد يوم الثلاثاء، مرحّبين بوعده بالانتصار في الحرب بحلول عام 2014، ومتعهّدين بإرسال نصف مساعداتهم مباشرةً إلى نظامه الفاسد.
في ظل الواقع المشؤوم للحرب في أفغانستان، لعله من المنطقي أن يقرّر القادة الغربيون تجنّبه واتّخاذ الوهم ملاذاً لهم، فقد عزّز شركاؤهم في كابول، التوّاقون إلى جني الأرباح، أوهام الولايات المتحدة، إذ اتّضح ذلك على نحو نادر حين وعد الرئيس حامد كرزاي يوم الثلاثاء بأنه سيُخضع بلاده للسيطرة العسكرية الكاملة في غضون أربع سنوات. من جهتها، قدّمت له وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون شكرها، بينما دعا رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون خطّته بالواقعية، لقد أُنجزت المهمّة ببراعة، إذ ستنتهي الحرب الأفغانية بنجاح "مع نهاية عام 2014".بالطبع لا أحد يصدق ذلك فعلياً، لكن القادة الغربيين انضموا بحماسة إلى موجة الادعاء بتصديقه التقليدية، وأصبح الإنكار ردهم التلقائي على المعضلة الأفغانية، إذ يدركون تدريجياً أنهم لا يستطيعون الفوز في الحرب هناك، لكنهم لا يستطيعون إيجاد طريقة للانسحاب.يلبّي كلا الجانبين في هذه الساحة حاجات الآخر، فقد ابتهج الغربيون حين قال لهم كرزاي يوم الثلاثاء في كابول: "نحن نواجه عدواً مشتركاً شريراً". كانوا يعلمون أن ذلك هو الرجل نفسه الذي هددهم قبل ثلاثة أشهر مضت بـ"الانضمام إلى طالبان" في حال واصل الأجانب الضغط عليه، لكنهم بحاجة ماسة إلى التصديق بأن كرزاي حليفهم وشريكهم، ويتجاهلون طوعاً الواقع لكي لا يكفوا عن التصديق.من جهة أخرى، بعد أن وعد كرزاي بأنه سيُخضع أفغانستان لحكم آمن مؤيد للغرب في عام 2014، غاص بعمق أكبر في عالم الوهم وذلك عبر منح البلدان المساهمة ما أسماه أحد التقارير الأخبارية "التزاماً بالحوكمة الجيّدة". إن مثل هذا الالتزام لا ينطوي على سخرية لأنه ينبع من أحد أكثر ناهبي المساعدات الخارجية مهارةً في العالم، ومع ذلك، حتّى الذين أدركوا عدم صدق ذلك ابتهجوا يوم الثلاثاء.كوفئ كرزاي بسخاء لأدائه دوره في هذه الطقوس المضلّلة، فوافقت البلدان المساهمة على أنها من ذلك اليوم فصاعداً سترسل نصف مساعداتها مباشرةً إلى نظامه الذي يستشري فيه الفساد، لكنها حتّى هذه الساعة لم ترسل سوى 20%، منذ قرون، ارتأى هنري الثالث ملك نافارا على نحو شهير بأن باريس تستحق قدّاساً. وبالنسبة إلى كرزاي، فإن قول أكاذيب مصوغة بقالب جميل يشكّل ثمناً صغيراً سيدفعه لقاء العملة الصعبة التي ستبدأ اليوم بالتدفق إلى خزائنه وخزائن أسياد الحرب الذين يدعمونه. يُذكَر أن المدرّعات، ووحدات المظليين والقنّاصة طوّقوا شوارع كابول خلال انعقاد مؤتمر هذا الأسبوع، ولم تتمكن بالتالي طائرة تقل وزير خارجية السويد كارل بيلدت وأمين عام الأمم المتحدة بان كي مون من الهبوط في كابول بسبب إطلاق الصواريخ، لكن من يبالي إن كان الرئيس كرزاي بعد بالنصر والحوكمة الجيّدة؟ من الصعب التخلي عن هذه الأوهام لأن ذلك يحتّم تقبل وقائع أليمة.أولاً، لم تكن أفغانستان يوماً بلداً موحّداً، ولم تتمكّن أي حكومة في كابول على الإطلاق من قيادتها. تمثلّت إحدى الحماقات المؤسسة في المشروع الأميركي في أفغانستان في الحملة الرامية إلى منح البلاد حكومة مركزية قوية، مع العلم أن اللامركزية شكّلت الواقع الأساسي في الحياة الأفغانية لقرون. وهكذا أدّى السعي إلى استبدالها بنظام حكم قوي في أفغانستان إلى إحباط التوازنات المعقّدة وساعد على إغراق الأمة في الفوضى. ثانياً، الأفغان أبطال العالم في مقاومة الاحتلال الأجنبي. لذلك فإن أعداداً كبيرة منهم لن تدعم جيشاً مسيحياً آتيا من بلاد بعيدة في حرب ضد سكّان محلّيين. ثالثاً، لم تُهزم أي حركة تمرّد في العصر الحديث وهي تتّخذ من بلد مجاور ملاذاً لها، فتطمينات باكستان بأنها تقمع الشبكات المؤيدة لطالبان مثيرة للسخرية. لا ترى باكستان أي مصلحة لها في سحق هذه الشبكات، لأنها ستحتاج إليها لاستعراض قوّتها في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة. لكن من أجل تهدئة واشنطن، تدّعي أنها تتخّذ إجراءات قمعية، فتثني الولايات المتحدة على حملاتها الفاترة انطلاقاً من حسّها بالالتزام.رابعاً، كرزاي ليس شريكاً يمكن الاعتماد عليه للفوز في حرب، فهو لا يريد حتّى القتال. كل همّه تعزيز ثروته، بينما يعمل الأميركيون في الأرجاء على بناء التحالفات التي ستدعمه بعد مغادرتهم. لم تعد تتلاقى المصالح الأميركية ومصالح كرزاي مثلما لم تعد تتلاقى ومصالح باكستان، فالحلفاء المحليون الرئيسيون للولايات المتحدة في الحرب ضد طالبان، كرزاي والباكستانيون هم أيضاً مموّلو الحركة وداعموها فضلاً عن أن السعودية تدعم طالبان بشكل واضح. لذلك فإن هذا التحالف لن يساعد على تحقيق النصر.أمّا الواقع الأخير الذي ترغب الولايات المتحدة في تجنبّه فهو عدم وجود طريقة أخرى للخروج من أفغانستان من دون حل إقليمي، فالتصالح مع القوى الأخرى أمر غير مألوف بالنسبة إلى صنّاع السياسة الأميركيين، إذ ينتهك قناعتهم الغريزية، التي خلّفتها الحرب الباردة، بأن الولايات المتحدة تتمتع بما يكفي من القوة الاستراتيجية للسيطرة نسبياً على الأحداث كما ترغب. لكن لن يحل السلام في أفغانستان إلا حين تُؤخَذ مصالح باكستان، والهند، وروسيا ولا سيما إيران في الاعتبار.يُشار إلى أن إيران تتمتع بقدرة كبيرة على المساعدة في فرض الاستقرار في أفغانستان، وقد عملت حقيقةً مع الولايات المتحدة لتحقيق ذلك الهدف بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. حتى القرن التاسع عشر، كانت أراض شاسعة في أفغانستان تشكّل جزءاً من إيران؛ ولا تزال اللغة الفارسية محكية هناك؛ فضلاً عن أن النفوذ الإيراني عميق ومتّسع، ومع ذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة إجبار نفسها على التقرّب من إيران لمساعدتها في الخروج من المأزق الأفغاني.يعكس رفض الولايات المتحدة مواجهة الوقائع الأفغانية مشكلتها الكبرى: التكيّف مع عالم جديد حيث قوّتها محدودة ولا تتحقق أهدافها إلا عبر التعاون مع القوى الأخرى. يفضّل الأميركيون الادّعاء بأن الزمن لم يتغيّر، لكن كرزاي يجاريهم طوعاً، فيخبر المساهمين الغربيين ما يودّون سماعه، بينما يسمحون له في المقابل بسرقة أموالهم. شكّلت عملية الطرد الأخيرة لقائد القوّات الأميركية في أفغانستان، الجنرال ستانلي ماكريستال، مشهداً عابراً فحسب من المأساة الأفغانية المتفاقمة، أمّا المشهد الآخر فكان عرض الرئيس كرزاي المخدّر للعقول حين وعد هذا الأسبوع بالأمن والحوكمة الجيدة بينما هلّلت له مجموعة من الأجانب وكأنها صدّقته. سينتهي الصراع في أفغانستان على الأرجح بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كما توقع قائد العمليات القتالية لدى الجنرال ماكريستال في المقابلة الشهيرة التي أجرتها معه مجّلة Rolling Stone، بطريقة "لا تمت للانتصار بأي شكل من الأشكال".من جانب آخر، يواجه القادة الأميركيون اليوم تحدياً واجهه أسلافهم خلال حرب فيتنام: كيف ينسحبون بأكبر سرعة وأقل ألم ممكن، بطريقة تسمح لهم بالادعاء أنهم لم يُهزموا؟ تتطلّب الإجابة عن هذا السؤال مواجهة وقائع قاسية. لذلك من الأسهل بكثير التهليل لكرزاي والادعاء بأن أي "تحالف" غربي سيتمكن للمرة الأولى في التاريخ من فرض إرادته على أفغانستان.*مراسل أجنبي حائز على جوائز. كتابه الأخير بعنوان Reset: Iran, Turkey and America's Future.