شاكر حسن آل سعيد ونظريّة الفن العربي... فنان يجمع بين ماركس والنِفَّري

نشر في 27-05-2010 | 00:00
آخر تحديث 27-05-2010 | 00:00
صدر حديثاً عن «الدار العربية للعلوم- ناشرون» وعن «دار محمد علي للنشر» وعن «منشورات الاختلاف» كتاب «شاكر حسن آل سعيد ونظرية الفن العربي» للكاتب والفنان التونسي نزار شقرون. في تقديمه للكتاب يعتبر شربل داغر أن هذا الكتاب جديد من نوعه، إذ قلما انصرف ناقد عربي إلى درس خطاب أحد الفنانين العرب عن الفن، جامعاً في ذلك بين جهد الناقد وتأمل المؤرخ وفحص اللغوي وعناية العامل في سجلات الفلسفة والفكر والتصوّف.

يتخذ نزار شقرون من كتابات الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد نموذجاً للفحص والدرس، للتعريف بجهده النظري ومساءلة أفكاره واستشراف حدود تجربة الكتابة النظرية العربية في مجال الفنون التشكيلية. ويرى أن كتابات حسن آل سعيد النظرية تقود إلى مساءلة معنى الكتابة النظرية وحدودها، ومشروعية اعتماد هذه الصفة لتلك الكتابات، ما يتيح لنا تقصي تعريف النص النظري، وإلى أي مدى يجوز إطلاق الصفة النظرية على كتابات محايثة لتجربة فنية ومؤطرة لها. كذلك، قد تنفتح هذه الصفة على مساءلة صفة أخرى وهي مرتبطة بحدود النقد والكتابة النقدية.

يبيّن شقرون أن التجربة الوجودية التي خاضها آل سعيد ساهمت في نحت أسلوب الكتابة ومضامينها، وأن الآليات الفكرية التي تحكمت في رؤيته وشكلت أدوات التفكير لديه منصهرة في رغبته الجامحة في بلورة نظرية فنية تنهض على إيثار التجريد مع اتخاذ «البعد الواحد» أساساً نظرياً وتشكيلاً ممكناً. فمحاولة تخطي اللوحة التقليدية ومفهوم الرسم كانت إحدى أولويات هذا الخطاب وأحد الدوافع الرئيسة التي جنحت بآل سعيد إلى ابتداع مصطلحات خاصة به أو بوضع تعريفات ذاتية لاصطلاحات فنية غربية متروعة في سياقها الحضاري والفني، وهي سمة لم تجر على خطابه فحسب بل مثلت أحد عوائق إنشاء جهاز اصطلاحي عربي لمدلولات ومفاهيم غير عربية المنبت.

ينابيع

يتابع الباحث بأن آل سعيد ربما استطاع أن يتجاوز في ذاته إدراكه بمأزقية هذا الوضع الاصطلاحي من خلال الاستنجاد بالرؤيا الصوفية والمناداة الدائمة والمعلنة بأن لغة الفن تستحيل في آخر المطاف إلى لغة إشارية وهذا ما يتجانس مع جوهر المسار الذي يتجه صوبه الفن المعاصر. فالجهاز الاصطلاحي لدى آل سعيد تغذى من الينابيع الغربية، فحاول أقلمتها في خطابه النظري وجرّها إلى دائرة هواجسه فاستفاد مما تتيحه من دون أن يقصر بحثه على تعريب المصطلح أو البحث عما يناسبه من الاستعمال العربي بل كان اهتمامه منصباً على إجرائيته ومدى قدرته على التعبير عن المستوى المعرفي الذي سعى إلى إبانته. على أن المصطلح الرئيس الذي دار عليه بحثه هو «البعد الواحد» الذي يحاول شقرون تبيين تعريفاته وتطوره من مرحلة إلى أخرى، فلا شك في أن المصطلح الواحد يتطور تعريفه كلما تغير الاستخدام وتبدلت الوسائل الملموسة التي يعبّر عنها. كذلك، يعد إسهام آل سعيد في توليد دلالته إحدى أهم إضافاته إلى المجال النظري الفني العربي.

يلفت الكاتب إلى أن آل سعيد ناضل في سبيل بلوغ تخوم التجربة الفنية وغامر بخطابه الفني والنظري ولم يكن منعزلاً على رغم ضيق عبارته، إلا أنها كانت من أثر اتساع رؤيته شأنه شأن المتصوفة الكبار وهو مع ذلك بقي مؤمناً بأن الممارسة الفنية، بما هي إنسانية، تقوم على فاعلية اجتماعية. لذلك كان خطابه في أكثر من موضع مراوغاً بالسلطة السياسية ولكنه منقاد إلى المسار العام الذي جسده الفكر القومي العربي، إلا أن قوميته شمولية لا ترتكز على حقبة محددة باللسان العربي بل هي متجذرة في أقاصي ثقافة شعوب المنطقة منذ آلاف السنين. وذلك هو السبب المركزي في استدعائه للتراث الرافدي القديم وفي البحث عن إمكانات ربطه بالحاضر العراقي والعربي حتى وإن بدا هذا الربط عاطفياً أكثر من كونه علمياً.

فلسفة

وجد آل سعيد في الفلسفة الغربية المعاصرة سنداً لتصوراته النظرية فالتجأ إلى الفكر الوجودي والظاهراتي والتأويلي محاولاً تبيئة أفكار هذه الفلسفات في التربة الفكرية العربية، لذلك ماثل بين تجربة الإنسان الوجودي وبين تجربة التصوّف ونظر إلى الحدود الفكرية بين المذاهب الفلسفية، نظرة قد يؤاخذه عليها الكثيرون من أنصار العلموية التي ترى في الجمع بين هذه الأفكار كلها نوعاً من الإخلال بالمنهج العلمي وتجديفاً معرفياً محفوفاً بالمخاطر والانزلاقات. غير أن آل سعيد لم يأبه لمثل هذه الاتهامات التي جعلته يجمع بين ماركس والنفري وبين سارتر وابن عربي، كذلك جعلته يجمع بين المقطع المسماري والخط العربي، إنها الآلية ذاتها في طريقة مواجهة الفلسفات والأفكار وتأويلنا لذلك أن الفنان يتصرف في هذا المنجز الفكري كله كما يتصرف في المشاع الإنساني، فهو يغرف من كل نبع فكري أياً كانت اللغة التي يتكلم بها أو النتائج التي يتوصّل إليها.

يفيد شقرون بأن التأمل قاد آل سعيد إلى عدم تبيُّن الفويرقات في بعض المصطلحات من دون تدقيقها ودراسة منبتها الغربي خصوصاً. فخلط بين «التجريدية» و{اللاتشخيصية» ولم يتعمق في مقاربة مصطلح «المحاكلة» وسارع إلى إعلان توليده لمصطلح «البعد الواحد» وتعامل مع مصطلح «الحروفية» كأمر واقع غير قابل للجدل أو المساءلة. ولم يسلم بذلك من إحراجات النقاد الذين عبرت غالبيتهم عن احترازها على هذه المصطلحات التي تُستخدم من دون مرجعية فكرية واضحة وتجري على ممارسات فنية قد تكون أبعد منها. ولعل إجماع النقاد على صدقية آل سعيد هو الذي لطف هذا الإحراج من دون أن يسحب عنه بشكل مطلق الاحتراز والاستغراب أيضاً.

يبيّن المؤلف أن تجربة آل سعيد الحياتية قد أثرت كثيراً في وقوف الفنان على روافد معرفية وفكرية في قطاع الثقافة العربية والغربية ومنها القطاعات الهامشية حين انفتح على التصوف والأسطورة والسحر فانعكست هذه الروافد كلها على ممارسته الفنية وخطابه. وهذا التوجه الذي تواصل على امتداد تجربته الفنية هو الذي أكسب مصطلحاته حمولات دلالية مميزة، فلا يمكن فهم المصطلح الواحد دون إدراجه في هذا السياق الفكري والرؤيوي الشامل.

يعتبر شقرون أن الكتابة النظرية المتعلقة بالفنون التشكيلية العربية تكتسي أهمية قصوى في تقديم التجربة التشكيلية وتشخيص وضعيتها وممكناتها الجمالية ومآزقها وآمالها في بسط سمات تميزها، في خضم التحولات الكبيرة التي تعصف بالفنون المعاصرة. وبما أن الانشغال والاشتغال بدراسة المنجز الفكري يدعمان حركية الممارسة الفنية، يتخذ المؤلف من تجربة أحد الفنانين العرب الذين انغمسوا في الكتابة النظرية الفنية، إضافة إلى انخراطه في تجربة التشكيل العربي، نموذجاً للبحث في هذا المكون النظري، الذي يرده شقرون إلى شقين اثنين غير منفصلين: المصطلحات وآلياتها الفكرية وهما ملتصقان ببعضهما البعض، التصاق الوجه بالقفا، فلئن مثلت المصطلحات ظاهر الخطاب البين، فإن للآليات الفكرية، مقام الباطن والخلفية التي توجه الخطاب وتنتج المصطلح فيأتي معبراً عنها ولصيقاً بها في آن. ويؤكد الكاتب أن سمة التفاعل البارزة في هذا التعالق بين المصطلح والآلية الفكرية هي التي تشغله في تتبّع الخطاب النظري الفني العربي.

يضيف شقرون بأن الفنان التشكيلي مدعو إلى إعطاء خطابه المرئي شرعية بمرافقته بخطاب فكري جيد وليس من الضروري أن يكون خطابه تفسيراً أو تعليقاً بل أن يكون موازياً، خطاباً فنياً يبين عمق محاولته ويزيدها شرعية ثقافية. ومن هنا يعتبر شقرون تجربة آل سعيد، تجربة فريدة. فالخطاب النظري المنشغل بالفن العربي، يمثل ضرورة تسند الحركة التشكيلية العربية وليس مجرد أداة لتبديل الواقع البصري العربي وإخراجه من لحظته الصامتة.

«سيرة اللامرئي في الرسم» لفاروق يوسف

ثمة حماسة في هذه الأيام للبحث في فن الراحل شاكر حسن آل سعيد، فعدا عن الدراسات التي نُشرت في أكثر من منبر إعلامي وإلكتروني، صدر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» كتاب «سيرة اللامرئي في الرسم» للناقد العراقي فاروق يوسف يتناول العلاقة الفنية بين آل سعيد وتلميذه النجيب الفنان الكردي هيمت محمد علي المقيم في باريس، يسردها لنا المؤلف محللاً، وللثاني تجربة يدخل في إيقاعاتها المتقاطعة في بعض أوجهها مع آل سعيد. يقدّمهما مقارناً تكراراتهما الزخرفية، متحدثاً عن نورانيتهما، وقد رحل الأول في العام 2004، ويستمر الثاني في إقامته وتكريس حضوره في باريس وفي جولات فنية خارجها.

يخلص يوسف، الذي ربطته علاقة وثيقة بآل سعيد، إلى أن: «آل سعيد لا يرى بعينه المباشرة... اليد لا ترسم هي التي تعيد نتاج مشاهد لم ترها العين بل عاشها الجسد بشغف روحي ووله هذياني... الرسم لديه عبارة عن مهارة بصرية تخترق المرئي إلى ما يليه من مشاهد تتشكل في الخفاء من غير أن تشير إلى مصادرها». فالتعاويذ والطلاسم والأوفاق والخروق والحروق، وما زخر به سطح لوحة آل سعيد، جميعها وسائل للبحث عما وراء سطح الأشياء.

back to top