وضحى المسجّن في بيكيا عشّاق أشياء عاشقة بسعر رمزيّ جدّاً
يقول نزار قبّاني على لسان امرأة عاشقة: {ربّاه، أشياؤه الصغرى تعذّبني/ فكيف أنجو من الأشياء، ربّاه}. وهذا الكلام يعلن كم هي أشياء العشق ذات قدرة على التعذيب بعدما يثقب دفّ العشّق ويتفرّق العشّاق. غير أنّ قارئ {بيكيا عشّاق} للشاعرة وضحى المسجّن يدلّ تلك المرأة النزاريّة على حلّ، قد يفاجئها، لكنه موجود ويلجأ إليه في كوكبنا وهو عرض أشياء الحبّ للبيع طمعًا بالتخلّص من عذابها.
في مقدّمة الكتاب، التي أتت على طريقة المقالة، تتحدّث المسجّن عن ظاهرة بيع أشياء المحبّين الذين يتفرّغون بعد الفراق لحمل صناديق الذكريات والقلوب والأرواح، والمناداة عليها: {ذكريات للبيع، رسائل أنيقة، هدايا رائعة، أرواح نديّة، قلوب مثقوبة... نبيعها لكم بسعر رمزيّ، فمن يشتري؟} وتعلن وضحى أنّ من اللطيف اختيار مصير قليل القسوة للذكريات، فيصار إلى بيع ما لدينا من أشياء تخصّ الحبّ والحبيب رمزيًّا، وربّما لعمل خيريّ أو لإغاثة شعب منكوب. تقول المسجّن هذا، وتعترف بأنّها كرهت سابقًا قول الشاعر: {ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني / بها كبدًا ليست بذات قروح / أقلبها في الناس، لا يشترونها / ومن يشتري ذا علّة بصحيح}. ولا شكّ في أنّ الشاعرة وُفّقت في الاستشهاد بهذين البيتين في سياق كلامها عن سوق الأشياء العاشقة. وترى المسجّن أن الكبد المقروحة والجروح أولى بالبيع لأنّها صادقة بلا لُبس، بينما الأشياء تخضع للتجميل لتصير لائقة بالحبّ، كذلك ترى ببيع الأشياء نجاة لها من الموت والاندثار وهي: {تخبر أنّ الحبّ كائن لا يمكن أن يكون له شاهد قبر}. وتتمنّى المسجّن أن تشتري صناديق أشياء العشق كاملة، وتعود إلى ذاكرتها الشعريّة الغنيّة لتورد استشهاداً آخر: {مساكين أهل العشق ما كنت أشتري / حياة جميع العاشقين بدرهم}، وتتساءل عن إمكان تفكير عاشق بأنّ أشياءه الثمينة قد تصل إلى روح إنسان غير الإنسان الذي أحبّ. في {بيكيا عشاق} بطاقتان شعريّتان، كلتاهما تضمّ مجموعة قصائد، فالأولى تحت عنوان {اشتريت كلامًا كثيرًا وصرت أبيع الكلام}، والثانية تحت عنوان {رسائل عشق}. واللافت في القسم الأوّل من الكتاب أنّ المسجّن أعطت قصائدها ذات المنحى المقتصد لغويًّا عناوين هي أسماء لأشياء تنتسب إلى ماضٍ عاشق، ما يعني أن الشاعرة ومن باب حرصها على منح هذه الأشياء عمرًا مديدًا، دعتها للإقامة الأنيقة على شرفة القصيدة. وكأنها بعناوينها تعرض ما حرّضها على الكتابة، ولكن ليس للبيع، إنّما للسفر الطويل في مراكب الكلمة المنذورة للحبّ: {بلوزة، شرشف أحمر، عطر، منشفة، مفتاح، ركوة قهوة، دبّ قطني، أوتوغراف، عملة معدنيّة}... قصائد المجموعة الأولى عبارة عن ومضات، والرابط بين النصّ والعنوان فيها شبه مفقود، أو أنّه خفيّ وتكتفي المسجّن بالوصول إليه وحدها، فهي لم تورد مثلاً، عنوان {شرشف أحمر} لتأتي كلمات النصّ امتدادًا نفسيًّا أو معنويًّا... لهذا الشرشف، فالكلام طاعن في الرمزيّة وربّما تعبير {لهاث الرّيح} وحده يقود إلى الشّرشف الذي تحرّكه نسمة هواء. غير أنّ المتلقّي يقف حائرًا أمام بعض العبارات اللافتة والغريبة والجديدة، لكنّه لا يعرف إلى أيّ طاحونة معنى يقود مياه هذا الكلام. ويتفاوت التعبير رمزيّة وغموضًا وانغلاقًا بين نصّ وآخر، ففي نصوص كثيرة تبدو المسجّن أكثر وضوحًا ووصولاً إلى المعنى والقارئ في آنٍ واحد، كما في عطر، تقول: {ألطّخ روحي بإيقاع صوتك}. ويكفي هذا النصّ ـ الجملة لتقول المسجّن ما تريد، من دون أن يرتبك القارئ أو يتردّد في مواجهة الكلام. فالمجاز بالغ الخطورة في اللجوء إليه، وهو عمود النصّ الأدبي الفنيّ الفقري، لكنّ وشم المفردات به عمل فائق الصعوبة، فهو قادر على اجتراح الدهشة عند حسن استعماله بخبرة ومعرفة وذائقة، وله أيضًا أن يغتال النصّ ويذهب بنسغ الكلمات وخصوبتها إذا أسيء استعماله. والمسجّن خبيرة وعارفة من أين تؤكل كتف المعاناة شعرًا ويتجلّى ذلك في أكثر من مكان، تقول في {فراشتان}، رابطة بين النصّ والعنوان، {نهداي / فرشتان / خرجتا من قفص القلب}. فكم هي موفّقة في الجمع بين الجسد في أقصى تجلّيه وحضوره من خلال النهدين، وبين العاطفة ونبل المشاعر من خلال القلب. خروج النهدين فراشتين من القلب معنى جديد وجميل يظهر قدرة الشاعر على الوضوح الذي لا ينتقص من الإبداع ولا يسيء إلى الجمال، بل العكس تمامًا، يكون الإخفاق الحقيقي في النصّ الذي يلهي القارئ ولا يأخذه إلى أي مكان، يشغله ولا يوصله، يأخذ من وقته ولا يأخذ من عقله وقلبه... وها هي قصيدة {ألعاب ساحر}، تأخذ من المجاز حصّتها، تلهي وتأخذ، تشغل وتوصل... تقول المسجّن: {بدا لي أنّك ساحر بارع / كنت تحوّل المنديل إلى حمامة / قطرات الندى إلى أطفال/ أدهشتني الأرانب التي تخرج من قبّعتك / هذا ما جعلني أجلس في الصندوق / وأسمح لك أن تشطرني إلى نصفين}. في هذا النصّ حضور لقاموس منسجم، ذي دلالات رمزيّة معبّرة، وفيه تعارض بين منتهى الفرح ومنتهى الألم، فمن حمام يفتح الجناح من منديل وندى يتجسّد أطفالاً وأرانب تتخفّى في قبّعة إلى امرأة مشطورة نصفين على يد من تحبّ، لكنّ الألم، كلّ الألم، في هذه المرأة التي لم تكن أكثر من مشهد عابر في مسلسل مشاهد طويل. والأرجح أن تكون هذه المرأة قد انشطرت حقًّا إلى نصفين قد يجمعهما الزمن مجدّدًا وقد لا يجمعهما. تبدو قصائد المجموعة الثانية {رسائل عشق} أكثر طولاً، غير أنّ سحابة حزن عميق تظلّل نصوص المجموعتين، كأن قدر المسجّن أن تجذّف إلى ما لا نهاية في المياه العاشقة بلا نشوة الوصول إلى شاطئ يمسح عرق الروح ويكون عليه قصر، ولو رملاً، لقلب يخفق حباً، فحسب حباً. والمسجّن تقصد الحب بكلّيّتها وبلا تحفّظ، تقصد كل شيء أو لا شيء: {أنا الصبيّة التي عرّشت تفاصيلها... / في كوب قهوتك.../ في أطياف بلا أسماء... / الصبية التي في حنان الليل / تربّي نجمة لا تكبر}. تعرف وضحى العاشقة أنّها تنازل المستحيل، ونجمة ليلها ذات فضة لا تنمو، لكنّها تتعهّدها بلُهاث الأمل وأنفاس الرجاء الموجع، وتراهن بصلابة العشّاق الذين يعتبرون آلامهم في العشق جواهر لا تذبل في خزائن القلوب. وإذا كان الآخر بالنسبة إلى الشاعرة ضربًا من المستحيل فهي بالنسبة إليه أيضًا رحلة ألم طويلة يلفّها العبث والاستحالة، تقول على لسان أحدهم: {وأنت ماكرة كطعم الماء / أنثى كالدخان/ غبيّة كالحلم}. بهذا الكلام تعلن المسجّن أنّها هي أيضًا لا تملك ثقة الحضور، وكأنّ الأنوثة طيف، وجسدها طيف، على رغم حضوره اللافت على امتداد الكتاب، لا سيّما من خلال النهدين، وعنهما يواصل ذاك الرجل الكلام: {والعطشان يحفر بئره / ما بين نهديك / ولن تبتلّ بي كبدي / ولن أغفر هواك}. وتستمرّ الشاعرة في الحبّ ناثرة وجهها على أمواجه بين مدّ وجزر، لتعلن في قصيدة {أقول جفوتكما} انسحابها من اللعبة القاتلة: {أحسدني إذ شفيت من الحبّ / أحسدني / ثمّ أبكي}. {بيكيا عشّاق} لوضحى المسجّن كتاب حبّ يقرأ في زمن، قلبه اصطناعي ووروده اصطناعيّة.صادر عن دار مسعى في الكويت بالتعاون مع الدار العربية للعلوم ناشرون .