أوراق في التاريخ والحضارة لعبد العزيز الدوري الاقتصاد الإسلامي تحت المجهر

نشر في 26-07-2009 | 00:00
آخر تحديث 26-07-2009 | 00:00
No Image Caption
صدر أخيراً لدى مركز دراسات الوحدة العربية الجزء التاسع من الأعمال الكاملة للدكتور عبد العزيز الدوري، بعنوان «أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي». ويأتي هذا الكتاب في طليعة الدراسات الاقتصادية، لجدّيته وتفرده بمعلومات ونتائج قيّمة. إذ تُعبّر الدراسات التي يتضمّنها عن ريادة في الاهتمام بالتاريخ الاقتصادي، والارتقاء به إلى مستوى النظرية مصطلحاً ومنهجاً دراسياً.

يقدّم الدوري من خلال هذا الكتاب، إطاراً عاماً للدراسات التاريخية التي تشتمل أساساً على حقول الاقتصاد، والمفردات الاقتصادية في نطاق كل حقل. وتشكل غالبية المفردات التي وردت فيه، أساساً مميزاً لمعظم الدراسات الحديثة اللاحقة. كذلك يقدّم نظرته الشمولية إلى التاريخ الاقتصادي العربي فيرسم إطار تطور تاريخ العرب الاقتصادي العام عبر اثني عشر قرناً، من القرن السابع إلى القرن التاسع عشر ميلادي، تجاوز فيه النظر في الجزئيات إلى دراسة الاتجاهات وتحليل التيارات.

يضم هذا الكتاب 14 بحثاً مختاراً، تشكّل في مجملها إطاراً وأساساً مميزاً لدراسات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. ففي بحثه «نشوء الأصناف والحرف في الإسلام»، يتناول المؤلف بدء تنظيم أهل الصنايع لأنفسهم وأهمية هذا الأمر بالنسبة الى هوية الأمة، ونشاطها الطبيعي الذاتي، فضلاً عن دورها أثناء الأزمات السياسية والتراجع الاقتصادي، ودور الدولة في الإشراف على الأسواق من خلال المحتسب وصلاحياته، وبوادر النشاط المستقل بين الصناع. ويفيد المؤلف بأن جمهور الصنّاع استمر على تنظيمه الحرفي الصرف مستفيداً من خبرته، ومن الضعف السياسي، فبرز كيان الأصناف الاجتماعي، وصار لها صوت مسموع في الحياة العامة، وأصبح لشيخ الحرفة أو رئيسها أهمية، كذلك حصل اعتراف بكيانها المتميز من السلطات. وقد اتّخذ بعض أصحاب هذه المهن شعارات مستمدة من الحرفة، كالسفينة للملاحين، والرحى للطحانين، والتنور للخبازين. وقد تداخلت عوامل عدة في نشأة الأصناف، منها رابطة المشاركة، وضرورة الإشراف الحكومي، ونمو الحياة المدنية، وتطور الصناعة والتجارة والمؤسسات الصيرفية، والارتباك السياسي الذي أوجب عليها الاهتمام بحماية نفسها، والنظرة الإسلامية التي زادت قوة بمرور الأيام، فصبغت نواحي الحياة والمجتمع كافة، وأكدت أهمية المبادئ الخلقية.

نظام الضرائب

ويأتي بحث الكاتب عن «نظام الضرائب في خراسان في صدر الإسلام» ليؤكد أن تنظيم الضرائب في خراسان تضمن مبدئياً الجزية المشتركة، بالإضافة إلى الضرائب الأخرى، ويؤكد الدوري في هذا المجال أن نصر بن سيار قام بإصلاح تنظيمي عادل، إذ أعفى المسلمين من الجزية، وأعاد فرضها على المشركين الذين أعفاهم الدهاقين أو الجباة من أهل الذمة لأسباب اجتماعية أو سياسية، كذلك نظّم ضريبة الأرض بأن صنّفها وفرضها بشكل عادل على أصحاب الأراضي.

يصل الدوري في بحثه «نظام الضرائب في صدر الإسلام» إلى تثبيت أسس النظام المالي في بلدان الخلافة الإسلامية، ويُتبع المؤلف هذا البحث بثلاثة أبحاث أخرى تلخّص دراساته وآرائه عن التنظيمات المالية (الضرائب) في بعض الأقاليم الإسلامية، فكانت البحوث على التوالي: «التنظيمات المالية لعمر بن الخطاب»، «تنظيمات عمر بن الخطاب: الضرائب في بلاد الشام»، و»الضرائب في السواد في العصر الأموي»، لتشكّل مع مقاله السابق عن الضرائب في خراسان إطاراً كاملاً لنظام الضرائب في صدر الإسلام في بعض بلدان الخلافة الإسلامية، يودع فيه جوانب هامة وأساسية عن الضرائب لم ينتبه إليها أحد سابقاً، سواء في إشاراته إلى الإرث المحلي البيزنطي والساساني في الشام والسواد والجزيرة، أو الآراء الاستشراقية، أو الإشارة إلى نظام الضرائب في الواقع، وآراء الفقهاء حولها وأصولها الأولى في فترة صدر الإسلام. ويلفت الدوري إلى أن أمور الدولة الأموية في الفترة الأخيرة، تأرجحت بين العودة إلى السياسة المالية قبل عمر بن عبد العزيز والأخذ بخطته التي تمثل محاولة شاملة لإعادة تنظيم الضرائب في ضوء التطورات العامة والمبادئ الإسلامية لمواجهة النقد والشكوى. فعلى رغم رد الفعل زمن يزيد بن عبد الملك، قوي الاتجاه نحو إعفاء من يسلم من الجزية، وبدأت فكرة تثبيت الأرض الخراجية على الخراج تزداد رسوخاً وتحد من تحوّل أرض الخراج عشرية. كذلك ساعد إصلاح النقد من عبد الملك على وضع أساس أوضح في الجباية. ولكن أساليب الدهاقين والجباة المتأصلة في جباية الضرائب استمرت إلى أواخر الفترة الأموية، وحتى الى الفترة التالية.

كذلك يلقى موضوع الأرض عناية المؤلف، وما يتصل بها من تدابير عملية تناسب وضع الأمة، فكان مقاله عن «نشأة الإقطاع في المجتمعات الإسلامية»، منطلقاً لتوضيح مفهوم الإقطاع، وربطه بملكية الأرض، مع الإشارة إلى التحوّل الذي حصل في ذلك المفهوم وواقعه منذ القرن الثالث الهجري وأثره في المصادر الفقهية. ومن هنا يلقي بحثه «العرب والأرض في بلاد الشام» الضوء على طبيعة المجتمع العربي في الشام، ولا سيما الخطوط الرئيسة المميزة في فترة التكوين، بدراسة بداياته القبلية، ومراكزه الرئيسة الأولى (الأجناد). أما بحثه في «التنظيم الاقتصادي في صدر الإسلام» فيحدد الخطوط العريضة المتصلة بالأرض في إطارها التاريخي، بدءاً من فترة الرسالة، ثم الفترات اللاحقة (الراشدون والأمويون).

ثم يحاول المؤلف من خلال دراسته «تطور المجتمع العربي في القرنين الأولين للهجرة»، رسم خطوط المجتمع العربي العامة خلال فترة القرنين الأولين، وتوضيح التبدلات التي حصلت في المجتمع وأدت إلى تطوره في الفترات المختلفة. هذا بالإضافة إلى اهتمام الدوري بمواضيع ذات صلة مباشرة بتاريخ الأمة الاقتصادي والاجتماعي، وتحديداً بجوانب حضارية إدارية تساعد على فهم الأحداث والتطورات في المجتمع العربي الإسلامي، وتعبر في مجموعها عن دور هذه المواضيع في أحداث التاريخ، في ضوء الظروف المحيطة به. ويعتبر الكاتب أن القرنين الأولين كانا فترة التكوين بالنسبة إلى ملكية الأراضي أو استغلالها، فقد تحولت ملكية الأرض الصوافي من المقاتلة الأوائل إلى بيت المال، وكان بإمكان الخليفة أن يتصرف بها، بمنحها أو إعطائها بالمزارعة أو استغلالها. ولكن منذ أيام عمر بن عبد العزيز استقرت لبيت المال وأصبحت بعد ذلك في وضع يمائل الأراضي الخراجية. شهدت هذه الفترة ظهور الملكيات الكبيرة بيد الأمراء والمتنفذين والمتمولين، وكانت من إحياء الموات أو من إقطاع الصوافي، إضافة إلى شراء الأرض الخراجية. ولكن القرار باعتبار الأراضي الخراج إيجاراً للأرض أخرجها من نطاق الملكية الخالصة، وإن لم يمنع من التوسع في استغلالها، ولم يحد من الملكيات الكبيرة.

الوقف

وفي بحثيه «دور الوقف في التنمية» و»مستقبل الوقف في الوطن العربي»، يحيي الدوري فكرة الوقف وتنشيطها رسمياً وشعبياً، وما لذلك من أثر حيوي في عملية التنمية، مع اقتراحات لتوسيع أفق الوقف وتطويره إدارياً وفقهياً، مبيّناً بذلك إمكان استمرار دور الوقف في عملية التنمية في المجالات التي لا تنفق عليها الدولة وفي طليعتها الخدمات الاجتماعية والثقافية والطبية. ويشير الكاتب إلى أن دافع الوقف الأساسي هو القربة، وفي ما عدا ذلك فالأحكام اجتهادية، وفي ذلك يفترض للأوضاع العامة أن تؤثر على المجتمع، كذلك تتصل فكرة القربة بالإيمان بمفاهيم وقيم من جهة، وبفكرة خدمة المجتمع بأشكالها ومجالاتها من جهة أخرى. وإذا تراجع الوقف، سواء كان بسبب تجاوز قواعده بالنسبة إلى شروط الوقف أو لولاية القضاء أم لغير ذلك من الأسباب، إدارية أو اجتماعية، يوجب إحياء هذا الإيمان وتيسير مجالات المشاركة في الوقف.

back to top