فيروز في مصر... حكاية مطربة لم تتخرّج في أمّ الدنيا
لا ينتهي السجال حول علاقة فيروز بالقاهرة. أحياناً يُقال إن المطربة اللبنانية ستغني في مصر بعد طول غياب، لكنها لا تفعل، أو يكتب أحدهم أنها المطربة الكبيرة التي لا تُسمع أغنياتها في مصر. فما سر هذه المعمعة؟سأل الكاتب المصري نائل الطوخي في إحدى المرات «لماذا لا يسمع المصريون فيروز؟»، وأردف «لسنوات طويلة ظل ألبوم وحيد لفيروز رائجاً في الأسواق المصرية. حمل عنوان «نخبة من أجمل أغاني فيروز» واشتمل على عدد من أشهر أغنياتها بدءاً بـ «حبيتك بالصيف»، ومروراً بـ «شادي» و{يا أنا يا أنا»، وانتهاءً بـ{أعطني الناي وغني». لهذا السبب أو ذاك لم يسمع المصريون الألبوم، برغم انتشاره النسبي، أي أنهم لم يسمعوه بالجدية نفسها التي يسمعون بها فريد الأطرش وعبد الحليم وعبد الوهاب، وأم كلثوم».
لم يتحدّث نائل الطوخي عن الأسباب الحقيقية التي تجعل المصريين لا يسمعون فيروز، وربما كتب ما كتبه من منطلق عاطفي نحو أمته ونحو مطربته المفضلة. يقول إن كثيرين يسمعون المطربة العظيمة لأجل القول إنهم يسمعونها. و{كثيرون يسمعونها لأجل معرفة شيء عن الشام أو عن المحيط العربي خارج مصر، فالمعرفة هي ما تؤدي ببعض المصريين في خطوة لاحقة إلى التمتع بصوت فيروز، وغالباً ما لا تصل إلى درجة المتعة، أي تقف عند كونها معرفة». أوضح كاتب آخر في جريدة «الدستور» المصرية: «منذ أن تفتّح وعينا نسمع فى مصر كل عام تقريباً الشائعة الشهيرة: فيروز ستغني قريباً في مصر. الأوبرا أوشكت على التعاقد مع فيروز، ساقية الصاوي ستدعو فيروز، فيروز ستغنى في مكتبة الاسكندرية. شائعات لا تنتهي وحلم مجهض لملايين المصريين الذين يحلمون برؤية فيروز تشدو على أرض مصر». يسأل صاحب المقال الذي لم نعرف اسمه: «لماذا تبدو علاقة المصريين بـ فيروز استثنائية؟». يجيب: {ربما لأن فيروز نفسها تجربة استثنائية»، ويسند مقاله بموقف لجمال عبد الناصر، حينما قال لمحمد حسنين هيكل «من أخطاء المصادفات أن فيروز وُلدت خارج مصر»! ما قاله عبد الناصر يعبّر فعلاً عمّا يراه المصريون الذين استكثروا وجود مطربة ليست مصرية تحقق هذا القدر من النجاح والانتشار وتقف موقف الند من أم كلثوم. كان عبد الناصر يحب فيروز جداً، لكنه استكثر ألا تكون مصرية. فذكرنا بمواقف سعيد عقل وحبه للانتماء اللبناني، اذ كان يكره الفلسطينيين، لكنه كان يطالب بتجنيس المبدعين منهم، وعبد الناصر كان عروبياً، لكنه في بعض مواقفه يبدو شوفينياً مصرياً، ربما يأخذنا هذا الموضوع الى نقاش في معنى العروبة والانتماء و{المصرنة»، فلمّا كان عبد الحليم حافظ يعتبر جمال عبد الناصر والده الروحي كتب الناقد اللبناني الراحل عماد الحر بأن بعض المصريين لم يصفقوا لفريد الأطرش لأنه شامي أي من بلاد الشام، ومن يقرأ كتابات تطرّقت الى أسمهان وشخصيتها يعرف النزوع العصبوي لدى مصريين كثيرين في الكتابة عمّن هم خارج مصر، على أن «المصرنة» في زمن العروبة الناصرية تشبه «الأمركة» في زمن العولمة. فقوة اهتمام مصر بالفنون والتمثيل والغناء جعلت العالم يحسب أن معظم النجوم من مصر، أو أن الكثير منهم لن يملك الشهرة إلا اذا سافر الى الديار المصرية، من صباح اللبنانية الى سميرة سعيد المغربية ووردة الجزائرية ولطيفة التونسية. في المقابل، الأميركي يحسب البلجيكي جان كلود فان دام أميركياً، والأمر نفسه بالنسبة إلى الممثلة نيكول كيدمان الأسترالية.في التعاطي مع الغناء، ندخل في متاهة «لعبة الأمم». طالما حسبت الناصرية أن أم كلثوم «صوت الأمة»، وطالما اعتبر منظرو الدولة اللبنانية أن صوت فيروز أحد أعمدة الجمهورية اللبنانية، وطالما كتب الشاعر أنسي الحاج في مدح «لبنانوية» فيروز ضد «عروبة» أم كلثوم، وهو كان منغمساً في الأمة المارونية قبل أن يتحوّل الى «التسامح» وحديث المتفرقات واللعب اللغوي في جريدة «الأخبار».انطلاقةيعتبر بعض الكتاب أن فيروز هي المطربة العربية الوحيدة التي لا تعني لها القاهرة شيئاً في مشوارها الفني، بمعنى أنها انطلقت من لبنان إلى العالم العربي مباشرة وكان مرورها بالقاهره عابراً وحدثاً استثنائياً. فالقاهرة كانت في ذلك الزمن مركز الانطلاق إلى العالم العربي أما بالنسبة إلى فيروز فكانت المسألة مختلفة، لا سيما أن عناصر تميزها الفني كانت أقوى من أن تبحث لنفسها عن قاعدة تنطلق منها. على أن مسألة الانطلاق من القاهرة أصبحت في خبر كان، خصوصاً مع تنامي زمن التحجّب فيها ورواج برامج الترفيه التلفزيونية التي جعلت بيروت مركز صناعة الفنانين وإن كانت السينما المصرية في زمنها الرث (الراهن) تبحث عن مغنيات أو نُجيمات لبنانيات للمشاركة في أدوار إغرائية.زارت فيروز مصر مرات عدة وتعاملت مع الكثير من ملحنيها، هذا طبعاً بخلاف غنائها عدداً من أعمال سيد درويش. أول زيارة لها إلى مصر كانت عام 1954 حينما كانت تقضي شهر العسل مع عاصى الرحباني، وأحبت هذا البلد جداً كما تقول، خصوصاً الإسكندرية التي كتب عاصي عنها أغنية «شط اسكندرية». وفي العام التالي، تلقى الزوجان ومنصور دعوة من «صوت العرب» لتقديم أغنيات لدعم القضية الفلسطينية، وكانت رؤية القيمين على الإذاعة آنذاك بقيادة المذيع المشهور أحمد سعيد أن صوت فيروز هو الأفضل للتعبير عن القضية الفلسطينية.قدمت فيروز آنذاك الأغنية الشهيرة «راجعون» بمشاركة كارم محمود الذي أدّى فيها وصلتين، وأُعيد تسجيلها في بيروت بعد عام أو عامين، مع بعض تعديلات في النص. لم يُطبَع التسجيل الأول على أسطوانة، وهو اليوم من الأعمال المنسية غير المتداولة تجارياً. أمّا التسجيل الثاني، فصدر عام 1957 على أسطوانة 33 دورة من الحجم المتوسط، ضمّت على الوجه الثاني أربع أغنيات قصيرة، وصدر بعد فترة منفرداً على أسطوانة 45 دورة. دخل العمل دائرة النسيان في الستينات، ولم يصدر على أسطوانة، إلى أن أعادت «شركة شاهين» إطلاقه في «سي دي» ضم أغنيات أسطوانة عام 1957 التي تعود إلى نهاية الستينات.الغريب أن فيروز توقفت بعدها تماماً عن الغناء في القاهرة لأكثر من عقدين ولم تعد إليها إلا عام 1976 في حفلتها الشهيرة في «حديقة الأندلس» حيث غنت «مصر عادت شمسك الذهب»، والأغرب تأكيد الناقد علي الراعي في بعض مقالاته الأخيرة أن غياب فيروز عن مصر طوال تلك السنوات كان نتاج مؤامرة من مطربة كبيرة .لكن رغم الأقاويل كافة التي ترددت عن مؤامرات لمنع انتشار صوت فيروز في مصر، إلا أنها تعاونت مع بعض الملحنين المصريين مثل محمد عبد الوهاب الذي غنت له «يا جارة الوادي»، «سكن الليل» و{سهار». الطريف أنه كان يغني وراءها ككورس في هذه الأغنية. وعن فيروز يقول بعنوان «فيروز. سلطة الأغنية القصيرة» إنها «أقدر المطربات في أداء الأغاني القصيرة» نظراً إلى قدرتها على أن تطرب السامع في أقصر وقت كأنه استمع إليها لساعات.السنباطي قدّم رياض السنباطي لفيروز أكثر من لحن مثل أغنية «بيني وبينك» لجوزف حرب. وجاء السنباطي الى بيروت خلسة من دون أن تدري وسائل الإعلام بقدومه. وحدها فيروز كانت على علم مسبق بهذه الزيارة الخاطفة، فطارت إليه مسرعة. وحرصاً منه كذلك على أهمية هذه اللحظات الهاربة من العمر الهلامي لبني البشر، توجه إلى حقيبة سفره فوراً وأخرج منها جهاز تسجيل صغير وضعه بينه وبين فيروز على مائدة عالية تتوسط المكان، ثم استدار وسار بضع خطوات مماثلة إلى حيث ينام عوده مستلقياً بعرض السرير فالتقطه بهدوء ليوقظه من غفوته عبر دوزنة قصيرة تنقلت بين أكثر من مقام موسيقي، فشاعت في الغرفة الألحان الأصيلة والبسيطة وبدأت فيروز تشدو:... فما همنا انطفأت نجوم بينناوتوقفت أرض عن الدوران آه ... لو أحترق الزمانونحن برماده في الريح مرتحلان وأسفر اللقاء على وضع اللمسات الأخيرة لثلاثة ألحان جديدة للسنباطي، الذي ما لبث أن فارق الحياة بعد عودته إلى القاهرة بأسابيع. ورغم أن هذه الألحان قد آلت ملكيتها الفنية إلى ابنه أحمد السنباطي، إلا أنها لا تزال حبيسة الأدراج، تنتظر بفارغ الشوق موافقة فيروز لتسجيلها في أسطوانات.وكانت آخر زيارة قامت بها فيروز إلى مصر عام 1989، حينما قدّمت حفلتين تحت سفح الهرم. أما على الجانب الآخر فتلوح «سفيرتنا إلى النجوم» كائناً بعيداً عن الجمهور المصري، لا يعرف عنها شيئاً اللهم إلا «زهرة المدائن» التي دأب التلفزيون المصري على إذاعتها أثناء «انتفاضة الأقصى»، و{طيري يا طيارة» الواردة في مشهد قصير من مسلسل «امرأة من زمن الحب»، و{سهر الليالي» بسبب الفيلم المصري الذي حمل اسم الأغنية واعتمد عليها في أحداثه.