الولد ذو البيجاما المخططة


نشر في 23-07-2010
آخر تحديث 23-07-2010 | 00:01
 أحمد مطر في كتابه المهم «صناعة الهولوكوست» خلص الكاتب الأميركي نورمان فنكلستين إلى أن المحرقة النازية تحولت، على أيدي المنظمات الصهيونية، من مأساة إنسانية جديرة بأن تكون درساً وعبرة، إلى «صناعة» قائمة بذاتها هدفها ابتزاز الدول، على مرّ أجيالها السابقة واللاحقة، بذريعة الجرائم القديمة التي وقعت في أوقات سابقة.

تكمن أهمية هذه الخلاصة في كون صاحبها يهودياً وابن ضحيتين من ضحايا معسكرات الاعتقال النازية.

إذا كان فنكلستين ركز حديثه في نقطة الاستثمار الدعائي الموصول لتلك المأساة من أجل الاستدرار الموصول لأموال المصارف والدول، لم تتوقف تلك «الصناعة» عند حدّ الجدل التاريخي والاعلامي، بل تمددت لتشمل منافذ الإبداع المقروء والمرئي والمسموع، سواء في مجالات البحوث الأكاديمية أو الأعمال الأدبية والفنية. ولأن تلك الصناعة قادرة على إسباغ أهمية ومنفعة على كل منتج في هذا المجال، فقد رأينا كتاباً كثيرين يتوجهون، بدافع هذا الإغراء، نحو هذه المأساة، ليطرحوا معالجاتهم الخاصة لها بكل ما يقدرون عليه، سواء بالحق أو بالباطل، بالعمق او بالخفة، بالبراعة أو بالبلاهة.

ولم لا؟ فكل عمل في هذا الإتجاه، مهما كان نصيبه من الكفاءة، موعود باحتلال مكانه في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، ثم بالدخول في خط إنتاجي آخر لهذه الصناعة، ليتحوّل بسرعة فائقة إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني يتصدّر الأعمال المؤهلة لنيل الجوائز، فيغنم صاحبه في الحالين ما يتمناه من شهرة وغنى.

من تلك الابداعات التي غنمت حظها المؤكد في هذا السبيل رواية «الولد ذو البيجاما المخططة» للكاتب الإيرلندي جون بوين.

الحق أنني لم أكن أعرف شيئاً عن هذا الكاتب لولا أن أغراني بقراءته عنوان روايته الطريف الذي وجدته يتردد بكثافة على أعمدة النقاد في الملاحق الأدبية للصحف البريطانية، ولم ألبث، بعد قراءته أن أدركت أن الرواية أصبحت موضوعاً لفيلم سينمائي، ما أكد لي ضراوة تلك الصناعة في الاستثمار السريع والكثيف في جميع خطوط الانتاج!

أنبأتني تلك الرواية بأن جون بوين لم يكن تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره لدى صدور «الولد ذو البيجاما المخططة» (2006)، لكنها لم تكن عمله الاول، فقد أصدر قبلها، وهو أكثر شباباً، ثلاث روايات أخرى من بينها: «سارق الزمن»، ويبدو أنه فكر ملياً فرأى أن ينجز شيئاً يتيح له أن يسرق النار من المحرقة النازية، ليستطيع وضع اسمه وأعماله الأخرى تحت ضوئها قبل فوات الاوان.

قبل كل شيء، ينبغي القول إن جون بوين كاتب موهوب، فروايته من أولها إلى آخرها تشهد على براعته في الإمساك بزمام السرد وتطويع اللغة لتكون بسيطة وأخاذة وقادرة على الوصول بحمولتها إلى طبقات القراء كافة.

غير أن اتجاهه إلى الإدلاء بدلوه في هذا الموضوع «الخاثر»، ومحاولة استعراضه من زاوية جديدة خاصة، قد ملأ قماشة فصوله بثقوب لا يمكن رتقها أو سدها، لعله لهذا السبب قد وجد نفسه مضطراً للتبرؤ من تلك العيوب بالمماحكة، وذلك بإخراج الموضوع من حقل التاريخ والمنطق الى حقل الفانتازيا، حين وضع كلمة «خرافة» بحرف صغير تحت عنوان الرواية الضخم في الصفحة الاولى.

مع ذلك لم يفلح هذا الصنيع، كما أرى، في إخفاء تلك الثقوب، إذ كانت الرقعة صغيرة على شق بالغ الإتساع.

أراد جون بوين الإيرلندي أن يذهب بموضوعه إلى بولندا وبدلا من التركيز على مأساة اليهود البولنديين، شاء أن يركز على مأساة أسرة المانية من خلال إبنها برونو الذي يحمله أبوه مع أسرته إلى بولندا، بعد انتقاله، كضابط نازي كبير، إلى إدارة أحد معسكرات الاعتقال هناك.

الطريف أن البيت الذي يقطنه برونو وأسرته كان ملاصقاً لمعسكر الاعتقال، ومفصولا عنه بسور طويل من الأسلاك الشائكة.

خلال إحدى جولات برونو خارج البيت يتعرّف على طفل يهودي بولندي، في الطرف البعيد من السور، ويتأتى لذلك الطفل ذي البيجاما المخططة، شأن جميع المعتقلين اليهود هناك، أن يفتح بعد مدة ثغرة في ذلك السور، ليخرج منها للقاء صديقه الجديد ابن آمر المعسكر الذي يجلب له كل مرة بعض الطعام.

في تضاعيف الرواية نفهم أن جدة برونو لابيه كانت تكره مهنة ابنها، وكانت مولعة بالتمثيل والإخراج، وطالما تمنت أن ينصرف ابنها الى العمل في الفن، وهي، في سبيل إشباع رغبتها في هذا الاتجاه، كانت تؤلف تمثيليات قصيرة لتمثلها مع حفيدها وشقيقته الكبرى في المناسبات الأسرية.

في النهاية جوهر المأساة الذي يبقى في ذاكرة القارئ هو أن برونو، المعجب ببيجاما صديقه شمويل، يطلب منه أن يجلب له بيجاما مماثلة ليستطيع الدخول معه إلى المعسكر ويشبع فضوله عن قرب برؤية أولئك الرجال والاطفال الذين يراهم دائماً من بعيد.

وفي اليوم الذي يتاح له فيه ارتداء البيجاما والتوغل في المعسكر، يساق مع صديقه وعدد كبير من المعتقلين، نحو إحدى غرف الغاز وبعد أن يغلق الحارس بوابتها، تنتهي حياة برونو ووظيفة أبيه، والقصّة!

كما هو واضح تبدو الثقوب كثيرة حتى في هذه الخلاصة المركزة، فعلى سبيل المثال، لا يمكن، حتى في الخرافة أن يقام بيت آمر المعتقل وأسرته- وهو البيت الذي يزوره هتلر أحيانا- بجوار معسكر اعتقال.

ثم ظهر برونو، الألماني ابن التاسعة والخاضع لتعليم خصوصي، طيلة الرواية بصورة السذاجة والبلاهة المناقضة للواقع تماماً خلال محاوراته مع صديقه شمويل الذي يوازيه سناً ويتفوق عليه فطنة ومعرفة على رغم بؤسه وسوء أحوال بيئته.

علاوة على ذلك كان الحديث بين الطفلين يجري باللغة الالمانية... وعندما نتساءل كيف يتحدث الطفل اليهودي البولندي المنكود لغة غريبة عنه تماماً، يحاول المؤلف ردم هذه الثغرة بقوله إن أم شمويل كانت معلمة لغات ولقنت ولدها الألمانية وشيئاً من الإنكليزية!

ولنا أن نتساءل: ألم يكن ضرورياً أن تعلمه شيئاً من اللغة الهندية أيضاً، كي تكون القصة فيلما هندياً بامتياز؟!

وماذا عن سور الأسلاك الشائكة الذي كان سداحاً مداحاً لذلك الطفل اليهودي الخارج والداخل على نحو موصول من معسكر اعتقال نازي وإليه، يرصد حتى حركة الذبابة والبرغوث؟!

وماذا عن لغة برونو الألمانية الأصلية وشكله الألماني وجسمه الممتلئ بالعافية... وهي كلها أمور لم تلفت انتباه حرّاس المعسكر، ولم تحمل برونو نفسه على استخدامها للنجاة؟!

واذا كان برونو بريئاً مسالماً لأنه طفل، كان جدّاه كذلك على رغم تقدمهما في السن. وإذا كانت وفاة الجدّة كأمر طبيعي مسألة مفهومة، فلماذا عوقب الطفل برونو بذنب أبيه؟!

هل كان جون بوين يلمح من طرف خفي إلى أن الألمان أنفسهم لم يكونوا جميعاً على نسق هتلر وآلته الجهنمية، ويمكن أن يكونوا من جملة ضحاياه أيضاً؟ لا أعتقد ذلك لأن أمراً كهذا لن يسعد أصحاب «صناعة الهولوكوست» الذين لا يريدون الانشغال بطرح هذه الحقيقة التي يعرفونها ويعرفها العالم تمام المعرفة.

وإذا كان بوين أراد حقاً أن يطرح هذه الفكرة، فغيره كان أذكى وأبلغ وأعمق وأفضل، يكفينا مثلا أن نقرأ رائعتي الروائي الألماني الفذ إريك ماريا ريمارك: «كل شيء هادئ في الجبهة الغربية» و{وقت للحب ووقت للموت» لكي نحيط، فعلا، بمآسي الشعب الألماني وشعوب أوروبا تحت حكم هتلر ودوائره العسكرية ومنظماته الاستخبارية، الأمر الذي يظهر لنا «الهولوكوست» باعتبارها مجرّد محرقة يهودية وسط محارق لا تحصى لملايين الناس من غير اليهود!

back to top