سلوى صافي في ذاك الذي في المرآة... إصرار على الإنسان الجديد

نشر في 13-04-2010 | 00:00
آخر تحديث 13-04-2010 | 00:00
قد تكون المرآة أحد أكثر الرموز انتشارًا في الأدب. فالإنسان وفي سياق بحثه عن ذاته، ينشد ما يريه وجهَه صافياً، نظيفاً من غبار الحياة. وتكون المرايا غالبًا نوافير ظلال تُري الإنسان ولا تُريه، وتدفعه بنزق من مرآة إلى أخرى، لأنّ الحقيقة موشومة الجسد بالوهم، والمعرفة لا تدخل الشبكة بتواضع سمكة وسذاجتها. غير أنّ المورَّطين بالكتابة يقولون لمراياهم أموراً وتقول لهم أموراً أخرى وفي ظلال هذا الحوار الحميم تتألّف تربة صالحة لعشبة الشِّعر الغربيّة.

في «ذاك الذي في المرآة» تختار سلوى صافي لغة خالية من الصّخب والضجيج، وتتجنّب التكثيف المجازيّ، وتطيل وقوفها عند بوّابة السماء، مخاطبة صاحب الخيمة الزرقاء، مجترحة البوح على عمق إيمان. فالله في نصوصها وجه لا تأسره مرآة، يهزّ أغصان شجرة اللغة، يقود مياه المعاني إلى طاحونته، يصادر المسافة بين القلم والورقة...

في مقدّمة الكتاب ترسم صافي بُعدها الإنساني الذي يتخطّى التنوّع دينيًّا وعرقيًّا، فإنسانها واحد: «وفي كلّ وجه / أرى وجهي / فلا أعود أعرف / من ذاك الذي في المرآة». وترى أنّ التلاقي زهرة كلّ مدّ وجزر لأنّ البحر لا يتنازل عن موجة، فكأنّ في كلّ بعد اقترابًا طالما المصدر واحد، ولا طريق يفضي إلاّ إليه.

في زحمة الأسئلة تنتقي الكاتبة سؤال: «من أنا؟» وتقرأه في ضوء حضور الله، فهي الآلة يوجّهها هو، ويحدّد لها زمان الانطلاق وزمان الوصول، هو المخاطَب دائمًا: «وأنتَ ملك هذه النفس / وأنت ذهب القلب / وماس الأصابع / وقرنفلة الحدائق». وكيف تهرب منه وأنّى لها هذا، والجوّ يعبق برائحة أنفاسه؟ والله لدى صافي يعبّئ غياب البشر ويملأه لأنّه الحبيب الدائم والثابت والعادل والمكتفي بالحبّ، ومن يدخل ملكوت الضياء فلم يعد يحتاج إلى شراع وريح وزمن وعزيمة: «فمنذ دخلت ملكوت ضيائك / سقط عنّي حماسي الفضفاض». هكذا تتخلّى صافي عن إبحاراتها، إذ لا سعي يثير خاطرها بعد الانتساب إلى ملكوت الضياء. وصافي لا تريد من الله ثمنًا لالتزامها فهي مجانيّة الإيمان، كذلك ليست من أهل الوصول السريع، ومستعدّة للوقوف برضا عند باب الانتظار الصّعب: «أقف دهرًا خلف باب موصد / شرط شمسك تضيء لحظة انفتاحه على المدى». وبين كلام وآخر تقترب صافي من النصّ المتصوّف لتصير علاقتها بالله ذات قدرة على التماهي واغتيال المسافات بالعاطفة المؤمنة: «يطلقون عليك أسماء كثيرة / أمّا أنا فأغيبك ليغيب عنّي الاسم / ولا يبقى سواك». حتّى الاسم، تعتبره صافي يأخذ من مساحة حضور الله، فلذلك تطلبه بلا اسم، وترمي بلغتها تحت قدميه: «أجمع أحطاب الفكر وألقيها تحت قدميك».

تعرف صافي أن إلهها لا يدرَك بالعقل، ولا يُسْجَن في جواب، فتطلب منه تخليصها من حشريّتها: «تطرد منّي حشريّتي لمعرفة كلّ شيء». وترجو منه مخاطبتها بلغة بسيطة: «بأيّ لغة يا الله تتكلم مع الذين لا يفهمون»، وفي هذا السياق يظهر تعب صافي من اللغة التي تحوّلها سؤالاً تلو سؤال: «لماذا نطرح أسئلة؟/ لماذا السؤال؟» ما يعني أنّ الصمت أقرب الطرق إلى الله وأنّ الإيمان استسلام لمشيئة لا تخطئ يومًا في حقّ البشر.

أمّا قصيدة «الطائر» فتحاول رسم ملامح الإنسان الذي تريده صافي وقد رأته بلغة الرمز طائرًا يحلّق عاليًا فيكاد لا يُرى، وتحت إبطة ورقة. لا يحطّ على صخرة لأنّ رغبة أخرى تجتاحه، و{لشقائه اعتقد أنّ السماء مربط لخياله / واعتقد أنّ الأرض استراحة المحاربين». يبدو طائر صافي على علاقة وطيدة جدًّا معها، وقد يكون أحد وجوهها في إحدى مراياها. وهذا الطائر الذي ظُنّ مظلّة ومنطاداً أو سفينة وخرافة تعرّض لرصاص القنص المفاجئ، وتهمته الوحيدة أنّه لم يطلب إذنًا ليطير؟»، وحكمًا كانت نهايته الموت.

«طائر» صافي إنسان متحرّر من عقد الاختلاف، يعتبر الأرض وطنًا واحدًا وأهلها شعبًا واحدًا وأديانها دينًا واحدًا... هو إنسان متقدّم، يخالف شروط اللعبة، ويتجاهل الخطوط والحدود التي يرسمها الواقع، لذلك ينتهي انتهاءً مأساويًّا، لكنّ أجمل ما فيه أنّ وجهه واحد في كلّ المرايا ولم يتنازل عن حريّة جناحيه ومتعة النّقش بمنقاده على لحم الضوء. «طائر» صافي لا تتّسع له سماء الشرق، ولو أنّ الشاعرة لم تبُح بكلّ شيء لكنّها تُمسك قارئها بطرف الخيط، وهو يسحب بالقدر الذي يشاء أو يستطيع.

في قصيدة «كحل الوطن» تتّجه صافي نحو الوطن منادية إيّاه بعشبة الروح، متألّمة لأنّها لا تستطيع الموت من أجله، متجمّلة به: «ولأنّي تجمّلت بك / يلامس ترابك فمي كلّ يوم». وتغمز من قناة أناس لم تشِر إليهم بوضوح: «يتقاسمون عرق جبينك»، بينما هي تكتفي بظلال أشجار وطنها وطبيعته... وبرمزيّة قريبة تدلّ صافي على تفرّق أهل الوطن: «ما هذا الشعور الزائف/ بانفصال نقطة ماء عن أخرى/ وبوضع البحر من جهة/ وسكّان البحر من جهة أخرى»... وتعود صافي بين كلام وآخر إلى إنسانها، وهي في «عجلات الرّحى» تراه يزداد جمالاً كلّما ازداد ألمًا: «ما أصعب أن تدور بين عجلات الرّحى لكن ما أجمل دورانك وأنت تبتهل»، ولا تجد غير المعاناة مطهِّرًا وساميًا بالإنسان إلى ذروة إنسانيّته، وإذا كانت الرّحى تطحن فالحياة تتكفّل بإعادة الخلق: «الرّحى تطحنك/ والحياة تعيد خلقك».

في قصيدة «يوم القيامة»، تركّز صافي على الأطفال المقتولين: «سيمرّ الله متجهّما، ولا يلقي بالاً إلا للأطفال الذين يرنون إليه». وكما في كلّ نصوص المجموعة تتحدّث صافي بشموليّة، والقارئ لا يعرف إذا كان أطفال العراق مقصودين أو أطفال فلسطين... وهكذا يكون كلّ الأطفال هم المقصودين، وهكذا تقترب صاحبة النصّ من فكرة الإنسان الواحد أكثر فأكثر. ولافت أنّ كلامها كلّه خالٍ من أيّ عصبيّة، حتى العصبيّة القوميّة، وهي عن سابق تصوّر وتصميم تتجنّب الأسماء كي لا تقلّص بُعد نصّها الإنساني. وفي هذا السياق ساوت بين القاتل والقتيل في نهاية المطاف، وفي حضرة الله: «سيبكيان معًا بحرقة وخشوع. القاتل والقتيل»...

يَغلب على نصوص صافي في «ذاك الذي في المرآة» الطابع النثريّ، ولو أنّ الإخراج الطباعي يعلن أنّ ما يقرأ شعر. وقد أساءت المباشرة السهلة البعيدة من ألق الصياغة إلى النصّ لأنّها ظهرت بكثافة، وكان من الممكن الاتجاه نحو الاختصار والضّغط. ولا شكّ في أنّ صافي قد أجادت فنيًّا في مواضع كثيرة، وأنّها ذات نفس خاصّ جدًّا وملحوظ على امتداد الكتاب. 

back to top