حديقة الانسان 
صيادون 
بشباك مختلفة 2

نشر في 28-05-2010
آخر تحديث 28-05-2010 | 00:01
 أحمد مطر هل يمكننا القول إن الإنكليز كانوا أرقى وأكثر تحضّراً من جيرانهم الأسبان الذين سبقوهم الى غزو القارة الجديدة التي سميت «أميركا» نتيجة خطأ تاريخي مضحك؟

كلا، فقبل زمن طويل من وصول الناطقين بالإنكليزية الى فرجينيا عام 1607، كانت قبيلة «البوهاتانس» قد سمعت، بطريقة ما، أخباراً عن «تقنيات التمدين» التي مارسها الأسبان، لذلك فإن الإنكليز استخدموا تقنية أكثر رقة، لضمان الأمن لمدة طويلة كافية لإنشاء مستوطنة لهم في «جيمس تاون»، وقد تمثلت هذه التقنية، على طريقة الثعلب الإنكليزي، بوضع تاج ذهبي على رأس الزعيم «واهونسو ناكوك» وتسميته «ملك يوهاتانس»، ثم اقنعوه بأنه، كملك للجميع، ملزم بأن يدعو قومه إلى العمل على إمداد «إخوانهم» المستوطنين البيض بالغذاء (الأمر الذي يمكن ترجمته عصرياً بمفهوم الشرق أوسطية)، بهذا الوضع الغريب أصبح واهونسو ناكوك مذبذب الولاء بين أفراد قبيلته وبين الإنكليز، لكنه بعد أن تزوج جون رولف ابنته بوكاهونتاس حسم قضية ولائه، فقرر أنه إنكليزي أكثر منه هندياً!

بقي البوهاتانس يتجرعون المر صابرين، حتى توفي ذلك «الإنكليزي الأحمر!» فهبوا للثأر، عازمين على دفع الإنكليز الى الوراء نحو البحر من حيث أتوا (يعني مثلما عزمنا ذات مرة بالنسبة إلى الصهاينة إذا كنتم تذكرون)، لكن هؤلاء الهنود لم يحسنوا تقدير قوة الأسلحة الإنكليزية، وعليه ففي وقت قصير جداً، تضاءل عدد «البوهاتانس» من ثمانية آلاف نسمة الى أقل من ألف نسمة!

وفي «ماساتشوستس» بدأت القصة بشكل مختلف نوعاً ما، لكنها انتهت، واقعياً، بالطريقة نفسها التي انتهت إليها في فرجينيا. فبعد أن هبط الإنكليز في بلايموث عام 1620، كان ليموت معظمهم من الجوع لولا المساعدات التي تلقوها من السكان الأصليين الودودين. ولأن الهنود كانوا ينظرون الى قاطني مستوطنة بلايموث باعتبارهم أطفالاً عاجزين، فقد تقاسموا معهم كل ما في مخازنهم من محصول الذرة، وعلموهم كيف يصطادون السمك وأين. وبهذا مكنوهم من اجتياز ذلك الشتاء القاسي بسلام. وعندما حلّ الربيع منحوهم بذور الذرة، ولقنوهم كيف يزرعونها، ثم كيف يحصدون المحصول. فكيف رد هؤلاء الجميل؟

عندما تكاثر عددهم، وأصبحت مستوطناتهم متراكبة على طول سواحل الأرض التي صاروا يسمونها «نيو إنغلاند»، طلب بعضهم من الزعيم ساموسيت أن يمنحهم 12 ألف أبكر من الأرض (ما يعادل 48 ألف كيلومتر مربع!)، الأمر الذي أثار دهشته، لأن الأرض، كما كان يؤمن، موهوبة من «الروح الأعظم» وواسعة سعة السماء، وليست ملكاً لأحد... لكنه تماشياً مع غرابة أطوارهم مضى في المزحة قدماً ليشارك في احتفال نقل الملكية، ووضع علامته على الورق كما أرادوا... فكان ذلك أول صك لنقل ملكية جزء من أرض الهنود الى المستوطنين الإنكليز وبعد هذا فإن المستوطنين الآخرين الذين تدفقوا بالآلاف زحفوا لاحتلال الأراضي ودفع أهلها الى الوراء بعيداً، من دون أن يزعجوا أنفسهم بإجراء مثل هذه الاحتفالات.

فلما مات ساموسيت رأى ابنه ميتاكوم ألا بقاء للهنود إذا لم يتحدوا لصد عائلة الاجتياح الفظ، وعلى رغم أن الإنكليز الجدد توجوه، وفق العادة، باسم الملك فيليب فإنه دخل معارك عدة ضد المستوطنين الذين بالغوا في الشراهة والطمع والعدوان (أي أنه وضع نفسه في قائمة الإرهابيين!)، وبعد بضعة أشهر من نجاحاته المحدودة، قلب المستوطنون المعادلة بقوة نيرانهم، فقتلوه وأبقوا رأسه معروضاً للجمهور في بلايموث، طيلة 20 عاماً، فيما باعوا زوجته وابنه الشاب لتجار الرقيق في الأنديز الغربية، ضمن آلاف الأسرى الآخرين من النساء والأطفال.

ثم... أتذكرون أصحابنا الهولنديين منتجي الجبنة والقشطة، وأصحاب طواحين الهواء الجميلة، الذين لا تزال رائحة رقتهم وطيب شمائلهم معلّقين في سماء جنوب أفريقيا؟

لقد كانوا هناك أيضا... فعندما وصلوا الى جزيرة مانهاتن استطاع واحد منهم اسمه بيتر مينيويت أن يشتري هذه الجزيرة!

بكم تخمنون أنه اشتراها؟ اشتراها بما قيمته 60 غيلدرا (عملة هولندا) من معدات صيد السمك والخرز الزجاجية!

لكنه شجع الهنود على البقاء فيها، ليس من باب المودة، لكن كي يواصلوا مبادلة فرائهم الثمينة بمثل هذه الأشياء الرخيصة.

وفي عام 1641، عندما بسط ويلام كيفت سلطته على قبائل الماهيكان، أرسل جنود الى جزيرة ستاتين لمعاقبة الهنود على اعتداءات لم يقترفوها هم، بل ارتكبها المستوطنون البيض، ولما رفضوا أن يخضعوا للاعتقال، قتل الجنود أربعة منهم «دفاعاً عن النفس طبعا!»، وعندما رد الهنود بالمثل بقتل أربعة جنود هولنديين «بدوافع إرهابية طبعاً!»، أمر كيفت بتدمير قريتين كاملتين في أثناء نوم سكانهما، فأرسل الجنود حراب بنادقهم في أجساد الرجال والنساء والأطفال وقطعوها أشلاء، ثم أضرموا النار بالقريتين وسووهما بالأرض.

تلك نماذج ضئيلة جداً لما سبق من «لطف» الأوروبيين، وهي لا تعادل، بالقياس لكل ما جرى، غير شعرة واحدة من وبر ألف جمل!

«إسرائيل» اليوم، ليست إلا واحدة من الآف الإسرائيلات القديمة، وهي في توصيفها النهائي مخلوق أوروبي الروح والجسد. وأميركا نفسها هي سابقاً ولاحقاً أوروبية الروح والجسد، ونحن أبناء العالم الثالث وحدنا الهنود الحمر الجدد.

لكننا، على رغم ما يبدو علينا من ضعف ووهن، قادرون جداً على الإفلات من مصير أسلافنا الطيبين، إذا استطعنا إزالة العقبة الكبرى التي لا تزال تقف في طريقنا الى تحقيق الذات... وهذه العقبة لا تتمثل في قوة أميركا، ولا في عنجهية إسرائيل، ولا في عدم اكتراث أوروبا، بل هي في البدء والختام تتمثل في هؤلاء «النواطير» الجاثمين كالصخور فوق صدورنا، والواقفين كالعظام في بلاعيمنا. فلأنهم لا يملكون شرعية من أي نوع، فقد اضطروا الى التماس الدعم من القوى الخارجية، فورطوا أنفسهم وورطونا معهم، إذ أصبح الواحد منهم مثل راكب الأسد: الناس خائفون منه، وهو خائف من الأسد!

إنهم بإيجاز شديد: نسخ عصرية من المسكين الغابر واهونسو ناكوك ملك بوهاتانس، خصوصاً بعد أن زوجوا قضايانا كلها للغرب، فما عادوا يملكون إلا الانحياز في الولاء للقوة التي وضعت التيجان فوق رؤوسهم.

back to top