أحلام بلا ضفاف

نشر في 17-06-2009
آخر تحديث 17-06-2009 | 00:01
 زاهر الغافري «لم أسعَ أبداً إلى أن أكون سوى حالم»

فرناندو بيسوا

ــ 1 ــ

في كثافة العتمة، يمتد سلّم طويل، لا أحد يعرف إلى أين يؤدي، لكنني أخمّنُ الوجهَ والهيئةَ الحزينة لجلستها، وهي قابعة هناك، فوق، في الغرفة الأخيرة. يحدث أن تكونَ الخطوةُ الأولى فوق درجة السلّم ثقيلة. الحجرُ يُدركُ قوّته ويفكّر في ذاتهِ، لن تستسلمَ القدم لأغنيةِ الحوريات. الخطوة الثانية ستصبحُ رافعةً للثالثة، هناك أملٌ قابل للانكسار كما ينكسرُ إناء في المجلى. الحركةُ الطيفيّة لذراعها الطويلة، لنْ تُسمَع الآن، ولنْ يُرى المنديلُ الأحمر في يدها. الخطوةُ الرابعة ثباتٌ مصقولٌ، نحتٌ مضاءٌ بفكرة الزمن، ها هي حياتكَ منذ الولادة أمام عينيك كشظايا علاماتٍ غير مفهومة.

الخطوةُ الخامسة معلقة هناك تتأرجحُ لكنها تميلُ الى التقدّم. لا مناصَ، لا مهربَ. الاضاءةُ الخفيفةُ تشدّ القدم، والعينان هناك في الاعلى، تختزنان دمعَ العالم كله. الأصواتُ الأرضيةُ لم تعد تُسمع أيضاً.

مع الخطوةِ السادسة، تبدأ النغمة الأولى، نغمة خفيفة تصعدُ معك السلّم كأنها قادمة من جوف نهر بعيد. في المرآة ذاتِ الاطار الفرنسي المذهّب، يبرزُ الشعرُ، مائلاً مثل نبات العرش. المنديل الأحمر يُغطي حيّز العينين الماثلتين، لتعودا الى طفولتهما.

مع الخطوة السابعة تنتهي الرحلة الطويلة، الضوء قوي واثيري، موجة الموسيقى التي سبقتك تستقبلك أمام الباب: الملاك الأزرق في انتظارك.

ــ 2 ــ

في ذلك العام كنتُ أغادرُ سماءَ الأب، بعد أن غادرتُ سماءَ الأم مبكراً. في وصيةِ الشقيقاتِ الثلاث صورةُ المستقبل على هيئةِ عينٍ ذهبيّة. ها أنا أستبدلُ حجارةَ أيامي بقفزةٍ واحدة. سأحتاجُ الآن الى قوةِ الشقاء في أرضٍ بعيدة. «أرض أموات المستقبل» يقولُ شبح الأم.

كأنني بالفطرة كنتُ حيواناً تائهاً. كأن الملجأ كان في انتظاري، ساعةَ الغسق.

- أهكذا وصلتَ الى هذه المدينة؟

- أجل ووقفتُ أمام النافذة.

كنتُ أنظرُ من خلف الزجاج بعينيّ صبيّ ميّت. في الشتاء أتكئ على جدارٍ أبيض وأستقبل أشعة الشمس الذهبيّة، رقيقةً كالموت.

لكن دائماً ما تفاجئني، الرغبة كأنها مفتاح يضيع مني دائماً وكلما أعثرُ عليه أجدهُ يلمعُ من جديد. شيء غريب. أهذا هو الأمل؟ كنتُ أظنُ أن الأملَ طائرٌ حقيقي بجناحين كبيرين، وها انا أكتشف الآن بأنني مخطئ. في الأعوام التي تلت، قررتُ وحدي أن أختبر الأفق، ظناً مني بأنني سأعثرُ على الجزّة الذهبية.

- وهل وجدتَها؟

- أكتشفتُ أن الرحلة هي «طواف دائمٌ حول المركز ذاته»، وما تبقى ليس سوى كلام قليل يُشبه السحر، يأتيني من بعيد عبر أصوات، حارسات خطواتي، شقيقاتي الثلاث.

ــ 3 ــ

في شارع طويل وخالٍ تماماً كنت أمشي وحيداً. الوقت قبيل الغروب بقليل، على جانبي الشارع تصطفّ أشجارُ الكاليبتوس الضخمة كما لو أنها تنحني لهذا الزائر الغريب. على مهل تنتقل خطواتي فوق الأسفلت.

يا لها من مدينة غريبة قلت لنفسي حتى كالفينو لم يحلم بها، كنت أسير ومن قبضة يدي يتدلى رأسٌ مقطوع، رأس امرأة بوجه يشبه قناعاً، غيرَ أن ملامحَ الوجهِ لا تزال تنبض وتتحرك. العينان مفتوحتان كأنما تستغيثان. الشفتان تتحركان أيضاً، هناك كلامٌ ينبغي قولهُ. لكن كيف أسمع ما يقوله هذا الفم الشبيه بقرنفلةٍ حمراء؟ الصمتُ وخطوط الجبين يوحيان بمأساة عميقة، كان الوجهُ كله كما لو أنه يُريدُ أنْ يقولَ كلّ شيءٍ دفعةً واحدة.

لكن عن ماذا؟ لا أعرف.

ربما عن صفاقة العالم، ربما عن خسارات فادحة.

كان الوجه بشريّاً وحقيقياً كأنه قناع، وبحركةٍ بطيئةٍ أشبهُ بحركةِ مفصل الليل والنهار، ثبتُّه على وجهي. من خلاله، من خلال وجهيَ الآخر، كنتُ أرى الغيومَ الرماديةَ وأشجار الخريف المطلة على تلالِ قرطبة.

back to top