عندما تكون المغامرة في 
قلب الحياة

نشر في 28-10-2009
آخر تحديث 28-10-2009 | 00:01
 زاهر الغافري «عين وجناح» كتاب محمد الحارثي النثري، الفائز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي، أو أدب الرحلات، يحملنا مباشرة على أجنحة المتعة والاكتشاف، وارتياد الآفاق، فتحتَ هذا العنوان الشعري الضارب لا تبدو الرحلة ممتعة في حد ذاتها فحسب بل، طريقة عيشها وطريقة قولها وكتابتها أيضاً. وأظن أن هذه الأخيرة التقاطة محمد الحارثي الذكية. لقد قرأت عدداً من كتب الرحلات العربية المعاصرة فوجدتُ في بعضها، على الأقل، أنها لا توصلني إلى أمكنةٍ بعيدة، ولا تحفّز الخيال كثيراً. فما السبب؟ السبب في رأيي أنها كتبت بقدر كبير من الصنعة والتخطيط، كما لو كانت الرحلة في الأصل رحلة مهمة ما، كأن تكون ندوة ثقافية، أو حضور مؤتمر ثقافي ما وليست رحلة، بمعنى مغامرة الاكتشاف، وعيش متعة السفر والتنقل.

هذه «الثقافوية» هي ما يضيّع أحياناً، متعة بعض هذه الكتب، وقد نجد فيها أحياناً اسماء ادبية معروفة، وتأملات وأسئلة عن الأوضاع الثقافية، في تلك المدن والأمكنة تم طرحها أكثر من مرة. لكن «عين وجناح» يختط لنفسه مساراً مختلفاً. أردت أن أقول بأن رحلات محمد الحارثي أشبه باحتفالية بهيجة بالرحلة ذاتها، بكل عفويتها وصخبها وحميميتها وتفاصيلها الصغيرة. في «عين وجناح» يكتب محمد الحارثي كما لو كان ينصت الى نفسه وروحه، ليكتشف ذاته، والآخر، وهذا هو أحد أهداف الرحلة أصلاً. يلتقط دفء الرحلة وحرارتها وحتى ضجرها، يلتقط خيط الرحلة ليوصله الى أبعد مدى في المغامرة.

وفي هذا الكتاب من الذكاء والتبصر ما يجعلك تعتقد أن محمد الحارثي سينمائي، وهو يربط المشاهد البصرية بعضها ببعض. وليس سائحاً اعتيادياً، حتى ان فصل الرحلة إلى تايلند وجزيرة كوساموي، حيث سيقوم برحلة -بصحبة آخرين- الى شاطئٍ مجهول، وإلى جزيرة شبه مهجورة، فيعمد في استرسال اشبه بالمونتاج المتوازي إلى استحداث مقارنة غاية في الابتكار على صعيد الكتابة، بين ما يعيشه من وقائع وأحداث وبين مشاهد فيلم «الشاطئ» لداني نويل، تلك المقارنة، ذلك الذهاب والاياب، مستخدماً طريقة القطع السينمائي، هو ما يجعل من «عين وجناح» كتاباً مشوقاً ايضاً.

محمد الحارثي شغوف بالرحلات. لنقل الى آخر نَفَس. كأنما يريد أن يَعتصر روح المغامرة نفسها، وأظن أن كتابة «عين وجناح» شكلت بالنسبة له، رحلة أخرى، قد تكون رحلة استعادية وربما حنيناً للأثر، للعلامات، للوجوه، والامكنة، للاشراقات والبهجات الصغيرة والمتاعب أيضاً. من هنا ربما جاءت الكتابة على شكل قصّ، حكاية، يوميات، فيها من التفاصيل، ما يقنعك بأنه ترك نفسه على سجيتها. (رغم خلفيته المعرفية، في التاريخ والجغرافيا وبعض اللهجات والثقافات لتلك البلدان التي زارها، وهو ما يظهر أحياناً في الكتاب). هل قلت «شغف»؟ أجل، انه شغف بالأمكنة، وشغف بالرحلة ذاتها، بتلك المتعة الخالصة، للعيش والاكتشاف، اكتشاف المجهول وسيرة الأمكنة والوجوه، وحركة المدن والقرى والشوارع، وحتى الرياح التي تحمل رمال الربع الخالي.

ما يتمظهر في «عين وجناح» ليس أناقة اللغة فحسب، بل أيضاً التقاطات فيها من الشفافية والدعة والتصوير، ما يجعل الجملة تذهب أحياناً كثيرة الى الالتحام بالأفق الشعري. وفي الكتاب مقاطع شعرية فعلية، فهو مثلاً كي يكتب عن علاقة فنان تلميذ من تايلند بمعلمه، لا يكتفي بوصف هذه العلاقة فحسب، بل يكاد يستنطق روح الفنان نفسه بحساسية شعرية عالية. قد لا يكون محمد الحارثي قاصاً، أو روائياً بالمعنى الحرفي للكلمة، غير أن كتابته لا تخلو من البنية السردية لهذين الفضاءين انه سرد يُمتع ويستوقف القارئ.

back to top