بليغ حمدي الطير المسافر... تقاسيم من حياة الموعود بالعذاب (8) تخلّى عن محمد رشدي ووقع في أسر عبد الحليم
لم تكن كتابة اليوميات أو المذكرات إحدى عادات حمدي، اكتفى ببعض الخواطر بين الحين والآخر. كان التدوين وسيلته للتنفيس عما في داخله من هموم، ضغوط حياتية، ومشاعر خاصة... باختصار «فضفضة» يتواءم بعدها الفنان مع المتاح من حوله.وفي بعض أوراقه المتناثرة التي عاد بها من سنوات الوحدة اللاإرادية، رصد حجم إنجازه في الأغنيات الباحثة في التراث، خصوصاً «الشعبيات».
هل كان حمدي مهموماً برصد الكم فحسب، أم لعله كان يتأمل تجربته المتميزة في هذا الجانب، التي للأسف لم يستكملها بعدما تكسرت على أرض الواقع، ولم يحملها غيره ويواصل بها المسيرة؟ هل كانت الشعبيات مجرد لون جديد قرر حمدي العزف عليه، أم رسالة أراد إيصالها إلى الجمهور. قال حمدي: «أنا جيت الدنيا علشان في رسالة أؤديها، قدرت؟ الله أعلم، أترك ذلك للتاريخ. ما زلت مؤمناً بالفلكلور، وبأن التطوير الحقيقي لموسيقانا لا يتم إلا بالعودة إلى منابع هذا التراث».هل كان حمدي مهموماً بالبحث في تراثنا بوصفه رسالة بدأها سيد درويش وكان عليه كما يؤكد أهل الموسيقى استكمالها، أم لعله كان شغوفاً وعاشقا لهذا اللون، لذا حرص على رفع راياته على أرضه.المؤكد أن حمدي كان يحلم بموسيقى مختلفة تعبّر عن أحلامنا وأفراحنا وأحزاننا وتفاصيل حياتنا، موسيقى من الناس وإلى الناس، بحسب د. خالد منتصر، نرقص على إيقاعاتها ونحارب أيضاً على نغماتها، لذا كان يلملم مفرداته الموسيقية من «زغاريد» الأفراح و{بكاء» الأحزان، حتى إيقاع «الردح البلدي» أخذ منه (راجع بعض مقاطع حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه)، وهذا ما فعله قبله سيد درويش بنصف قرن عندما ردد أغنيات العمال والفلاحين و{الصنايعية» وكل من عاش على هامش الحياة ودوائر التأثير. لكن للأسف، كما خطف الموت سيد درويش في عز شبابه قبل أن يكمل مشروعه هذا، خطف المنفى حمدي قبل أن يصوغ أحلامه الموسيقية الخاصة بالشعبيات رغم كل ما قدمه من روائع في هذا الصدد...يا نخلتين في العلاللي يا بلحهم دوا يا نخلتين على نخلتين طابو في ليالي الهوىيأم العروسة زغرطي يأم العروسة.يأم العريس زغرطي يأم العريسطلي على الأحباب طلي، يا لايقة في الطرحة التللي بدأت علاقة حمدي بالفلكلور منذ كان طفلاً صغيراً، هكذا يؤكد شقيقه د. مرسي سعد الدين، مشيراً إلى أن شغفه بهذا اللون اشتعل في سنوات عمره الأولى عندما كان يسترق السمع إلى ما تردده الخادمات في منزلهم، بدليل أنه كان يحفظ تلك الأغنيات بسرعة وحتى من دون أن يفهم معناها.وهكذا في تلك السن المبكرة انتبه حمدي إلى الفلكلور العربي عموماً والمصري خصوصاً، ربما لما فيه من سحر سواء في المعنى العام أو في مفرداته شديدة الخصوصية التي كانت وستظل تعيش فينا. كان مؤمناً بضرورة البحث في التراث الغنائي الموسيقي والإيقاعي والإلمام به ومعرفة مصادره، ثم أضاف إليه مخزونه السماعي الذي علق في وجدانه منذ كان طفلاً يقف مبهوراً أمام هذه الأغنيات وإيقاعاتها المتميزة، ويخرج منها مزيجاً مختلفاً، أو بتوصيف أدق يعيد تشكيل بما يتناسب مع الكلمات الجديدة والرؤية البليغية الخاصة باللحن.ما لا يعرفه البعض أن «يا نخلتين في العلاللي» التي غنتها وردة في فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» تسجل لحمدي أولى محاولاته في تأهيل الفلكلور المصري كما تؤكد د. رتيبة الحفني، لكن تجربته الأهم في هذا المجال يمكن تلمسها بوضوح مع محمد رشدي الذي شكل مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي فريق عمل دفع مصر كلها نحو الأغنية الشعبية. صحيح، ان أصواتاً أخرى كعبد الحليم ، شادية، فايزة، صباح وغيرهم، غنّت هذا اللون، لكن تجربة حمدي مع رشدي تبقى هي الأقوى والأرسخ والأهم...آه يا ليل يا قمروالمنجة طابت ع السجر(الشجر)اسقيني يا شابة وناوليني حبة ميةاسم النبي حارسك ردى عليَّيا عدويةاوعوا تحلوا المراكب والله يا ناس ما راكبولا حاطط رجلي في المية إلا ومعايا عدويةرنّ جرس الهاتف في «دار الأدهم»، منزل الفنان الراحل محمد رشدي كما أسماه تيمنا بمواله الشهير «أدهم الشرقاوي» والذي كان «وش السعد» عليه، ما يفسر لماذا سمى أيضاً أصغر أبنائه أدهم.كانت عقارب الساعة تقترب من الساعات الأولى من الصباح لذا سارع رشدي بالتقاط السماعة متخوفاً من كارثة لا محالة:- آلو.- أزيك يا رشدي. - خير يا بليغ في حاجة؟- لا أبداً أصلك وحشتني بس.لم تكن هذه المكالمة الأولى ولا الأخيرة التي جمعت بين حمدي ورشدي رفيق مشواره الخاص مع الشعبيات، ولم ترتبط بسنوات الغربة اللاإرادية فحسب، بل كانت طقساً يمارسه حمدي بتلقائية وعفوية، ما يؤكد أن رشدي في حياة حمدي لم يكن مجرد شريك تجربة ناجحة، بل كان رفيق حياة وصديق عمر.قال رشدي في الذكرى السنوية الأولى لرحيل حمدي: «كثير من أصدقائي الملحنين يشعرون بالغيرة عندما أتحدث عن حمدي بكل هذا الحب ويسألونني في غيظ حتى وهو ميت قاعد تتكلم عنه ليل ونهار، وكأن مفيش غير حمدي في الدنيا، لكنني معذور لأن من عرف حمدي لا بد أن يحبه، فما بالكم إذا كان مثلي لم يعرفه فحسب، بل اقترب منه والتصق به سنوات طويلة، ورأى من خصاله الجميلة والغريبة الكثير أيضاً». تابع رشدي: «كيف لا أحبه وهو الذي جلس على باب حجرتي في المستشفى مدة 15 يوماً متصلة عندما أصابني النزيف وفقدت 80% من دمي، هذا النحيف القصير وضعني على كرسي وحملني إلى المستشفى، فقد كان أول من اتصلت به زوجتي كي ينجدها عندما وجدت الدماء تنزف مني بغزارة، وكان الوحيد الذي استدعيته إلى سريري وأوصيته «ياخد باله من عيالي» إذا أصابني مكروه. كيف لا أحبه وهو الذي كان يعتبرني كشقيقه تماماً، يثق بي ويستأمني على سره»...طاير يا هوا طاير ع المينارايح ياهوا تخبر أهالينا قصة الهوا وتفتن عليناأمرك يا هوا خبر أهالينادايما يا بحر تخبي أسرارنا ولا عمرك مرة بتحكي أخبارنالكن الهوا ماله ومالنا أمرك يا هوا خبر أهاليناكان رشدي قد حقق نجاحاً كبيراً بعد مواله الشهير «أدهم الشرقاوي»، ما دفع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي إلى البحث عن هذا الأدهم بدأب، وما إن التقيا حتى ربطتهما الصداقة والتجربة فقدما معاً «تحت السجر يا وهيبة» مع الملحن عبد العظيم عبد الحق، ويبدو أن القدر كان يرتب أوضاعه لينطلق في الأفق لون جديد من الغناء على يد الثالوث الأبنودي وحمدي ورشدي، فقد اختلف الأخير مع ملحن وهيبة عبد العظيم عبد الحق، من ثم اقترح الأبنودي أن يتعاونا مع حمدي، الذي كان في الوقت نفسه يفتش عن رشدي بعد نجاح أغنياته السابقة، وبعدما تيقن أنه الوحيد القادر على حمل لواء الشعبيات في تلك الأثناء.أوضح حمدي: «رشدي مطرب شعبي عظيم جداً، بحنجرته وإحساسه حكينا أنا والأبنودي حكايات عن الناس الغلابة، أفراحهم، كتير من تفاصيل حياتهم، والحمد لله نجحنا نجاحاً كبيراً وغنت مصر كلها «بلديات»، «وسع للنور»، «عدوية»، «كعب الغزال»، «عرباوي»، «إسكندراني»، «ميتى أشوفك»، «طاير يا هوا»، «مغرم صبابا»، «يا مغنواتي» و{تغريبة» و...ع الرملةأهو خايف من الرملة من الموجة لتهد الرملةوتهد قصوري وياها وتضيع كلمة كتبناها ع الرملة وقاعد حبيبيويا خوفي ليكون ما داري بيأغنيات أخرى ناجحة قدمها حمدي بصوت محمد رشدي دفعت نجوم المشهد الغنائي آنذاك إلى السير على الدرب نفسها، وفي مقدمهم عبد الحليم حافظ، شادية، فايزة، صباح، والوحيدة التي حلقت بعيداً عن هذا اللون نجاة، فقد أدركت أن حنجرتها وصورتها الراسخة في وجدان جمهورها لا يمكن أن تتوافقا وهذا اللون.ذكر رشدي: «حمدي أحدث ثورة في الموسيقى العربية ولن يعرف الناس قيمته إلا بعد مرور 20 عاماً على الأقل، فهو الذي مصّر الألحان وجعلها شرقية خالصة، وأول من أدخل الإيقاع الصعيدي إلى الأغنية، وهو صاحب رؤية جديدة في الغناء، أي ليس مجرد ملحن لأن في هذا التوصيف ظلماً كبيراً له».وتابع: «حمدي مفكر وصاحب رؤية، وهو لم يصل إلى هذه المكانة بسهولة، فمنذ أن عرفته وهو دائم الاطلاع والتعلم والتنقيب والبحث في كل ما يخص الموسيقى. عرفته وهو يستعين بآخرين ليكتبوا له النوتة الموسيقية وعرفته بعد أن درس الكتابة الموسيقية وتعمق فيها وأصبح أستاذاً ومايسترو في علومها، يكتب النوتة ويوزع كل الآلات الموسيقية».رأي رشدي في حمدي لا يمكن اعتباره شهادة مجروحة بحكم صلة الصداقة التي ظلت تجمعهما حتى آخر لحظة في عمره، فمثلاً الموسيقار الراحل كمال الطويل لم يختلف رأيه كثيراً على رغم أنه يعد منافساً له. قال في هذا المجال: «حمدي موهبة متدفقة ونجح في تلحين جميع القوالب الموسيقية ليقدم 1500 لحن، كذلك يُحسب له مزج إيقاعات عربية مختلفة واستحداث أخرى كانت وستظل تحمل بصمته الخاصة».الرأي نفسه أكدته د. رتيبة الحفني وأعطت مثلاً أغنية «من بعيد أدعوك يا أملي» التي كتبها الشاعر الجزائري الراحل صالح خرفي وغنتها وردة في أعياد الاستقلال في الجزائر. فقد طعّم حمدي لحنه بمقطع مقتبس من «ما نيش من» إحدى أشهر الأغنيات الفلكلورية الجزائرية في محاولة فنية لربط الأغنية ذات الجوهر النضالي الجزائري بالتراث الغنائي الأصيل النابع أيضاً من الفلكلور الجزائري، فأعطى بذلك بعداً فنياً جديدا للأغنية...ميتى أشوفك يا غايب عن عينيقتالة الفرقة والله وبعادك على عينيأبعت مراسيل مراسيل شايلة لك شوق مننا يا جميلقلنالك ياما ولاقلتشميتى حتجينا ما بتردشلم يتخيل محمد رشدي أن أغنية «ميتى أشوفك» لن تكون رسالة لوم وعتاب من عاشق يفتقد حبيبته، وإنما رسالة عتاب إلى صديقه حمدي، شريكه في رحلة الكفاح والنجاح وصانع نجوميته كما كان يؤكد دوماً، تحديداً بعدما نجح حليم وبذكاء في الاستحواذ تماماً على الثنائي حمدي والأبنودي وقدم معهما أغنيات عدة منحت العندليب ميلاداً جديداً مثل «توبة»، و{الهوا هوايا» وغيرهما، ثم شعر رشدي أن مشروعه الغنائي ضُرب في مقتل، فبدأ يبحث عن طاقات نور أخرى تثبت أقدامه على الساحة، وتبقيه في دوائر المنافسة.حول هذه الأيام ذكر رشدي: «نجح عبد الحليم في استقطاب حمدي وكان يصطحبه معه في سفرياته التي لا تنتهي وأنا «عاوز أغني»، لهذا كان عليَّ البحث عن بدائل أخرى، وفعلاً قدمت {عرباوي» و{حسن يامغنواتي» مع حلمي بكر وكان حينها ما زال مجنداً في الجيش، وهما من تأليف شاعر جديد هو حسن أبو عثمان، الذي أصر أن يرد في أغنيته الأخيرة على أغنية حليم «التوبة»، فكتب يقول:وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي ترميني المقاديرنعيمة تقول بحبه يا بوي وأبوها يقول فقيرضحك رشدي وهو يتذكر ما كان يجمعه بحليم من خصومات وغيرة ظلت مشتعلة تؤججها الصحافة كلما قلت حدتها: «عندما سمع حليم هذه الأغنية غضب بشدة وذهب إلى مدير الإذاعة المصرية آنذاك يشكوني له، وفعلاً أصدر المدير قراراً بوقف إذاعة أغنيتي رغم ما حققته من نجاح».حمدي، كما جاء في شهادة رشدي، لم يسعده ما فعله صديقه وعاتبه بشده، إلا أنه في ما يبدو كان لديه إحساس بالذنب تجاه رشدي لذا أصر وهو على فراش الموت بأن يهديه عدداً من ألحانه التي لم تغنَّ، وكانت بحوزة شقيقه د. مرسي ومن بينها «فيكي شيء»، «في انتظارك»، «يا صاحبي» و{ما تهونش»، إلا أن هذه الألحان وللأسف لم تر النور حتى الآن...ملامة، وبطلو ملامة يا أهل الملامةكفاية، يجعل طريقكو كله سلامة من نار الهوى، من ظلم الهوىمن غدر الهوىده الحب قادر، واحنا غلابةشغلونا يابا، مغرم صبابةالغريب أن الشعور بالذنب الذي دفع حمدي إلى الاعتذار بشكل عملي لرفيق مشواره مع الشعبيات، لم ينتاب الأبنودي تجاه التجربة وما آلت إليه، وهو ما يمكن تلمسه في ما ذكره في حواره مع أيمن الحكيم الذي ضمنه كتابه عن حمدي. اوضح الأبنودى نافياً عن نفسه الاتهام بالتآمر على رشدي والتخلي عنه لصالح حليم: «لست أنا الذي يخون ويبيع. كنت أبعد رؤية ولم يكن باستطاعتي تجاهل مطرب في حجم عبد الحليم كسيّد الغناء العربي في تلك المرحلة، أتجاهله لمجرد أنني نجحت مع رشدي بأغان مثل «وهيبة» و{عدوية»... قد يستغرب البعض حين أقول إنني لم أحس بأغنية «التوبة» إحساساً حقيقياً وصادقاً، وهي آخر أغنية كتبتها في تجربة الشعبيات، إلا عندما غنتها ماجدة الرومي، حينها فحسب تيقنت أنها تجربة دائمة التجدد»...يا رموش قتالة وجارحه يا بوي وعيون نيمانة وسارحة ياعينأديكي عمري بحاله يا بوي واديني انت الفرحة يا عينوأنا كل ما أقول التوبة يا بويترميني المقادير يا عين وحشاني عيونه السودا يا بوي ومدوبني الحنين يا عينزمن آخر...- آلو مين؟- أنا بليغ ... أهلاً يا مدام.- ازيك أنت يا أستاذ.- الحمد لله أخدت الحقنة الأولى، الحمد لله، وقريب ح أخد الحقنة الثانية. أخباركم إيه؟ كنت بتفرج على برنامج على الفضائية المصرية شفت رشدي. قلت أكلمه وحشني. قوليله الدنيا اتغيرت ودلوقتي في لندن وباريس بيشوفونا، يعني ممكن مزيكتنا توصلهم وتأثر فيهم. قوليله بليغ راجع وح نخلي العالم كله يسمعنا...وعاد بليغ فعلاً، لكن جثة هامدة... • في الحلقة المقبلة نواصل معاً الإبحار في أوراق «الموعود بالعذاب».. «أعز الناس»