دبي: الصعود والهبوط وجهان لمسار التميز

نشر في 08-12-2009
آخر تحديث 08-12-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله لا شك أن الكم الأكبر من مقالات وتحقيقات وتعليقات وكالات الأبناء العالمية والصحف الأجنبية والعربية الذي تحدث عن دبي أخيرا، جاء متشفيا وغوغائيا وغبيا وذهب بعيدا في إطلاق أحكام متسرعة عن نهاية نموذج دبي وسقوط حلمها وأفول نجمها.

من تابع هذه الكتابات عن كثب يحقّ له أن يطرح الأسئلة الآتية: لماذا يكره البعض دبي؟ ولماذا تثير هذه المدينة العربية، حفيظة البعض، وغيرة البعض الآخر، وحقد البعض الأخير؟ ولماذا تستأثر هذه التجربة التنموية والعمرانية دون غيرها من التجارب التنموية العربية هذا القدر من الاهتمام الإعلامي الصحي والمرضي؟

مهما كان سبب هذا الهوس الإعلامي، فالمؤكد أنه ليس كل ما قيل ويقال وكتب ويكتب عن دبي حاقد وشامت ومغرض وكاره، فبعض ما كتب في الآونة الأخيرة عن دبي محق ومنصف وناقد ويمكن الاستفادة منه لتحسين الأداء وتصحيح المسار والحفاظ على المكتسبات والمنجزات.

فالمدينة لم تدَّعِ في أي وقت من الأوقات أنها كاملة ومتكاملة، ولم يقل أحد فيها إنها مدينة معصومة من الأخطاء في ما تفعله وتخطط له وتحلم به، كما لم تقل المدينة إنها بمنأى عن النقد، بل هي ترحب بالنقد مهما كانت حدته ومهما كانت قسوته، وقد استفادت من النقد أكثر من غيرها، فهناك الكثير الذي يمكن تناوله بالنقد المشروع في تجربة دبي التي أصبحت مادة رائجة للأكاديميين بقدر ما هي مادة رائجة للإعلاميين.

ربما ذهبت دبي بعيداً في الحلم، وتجاوزت حدود الممكن، وحاولت الوصول إلى المستحيل، وربما اندفعت في لحظة من اللحظات خلف النجاح ونشوته وأضوائه الباهرة والمغرية كل الإغراء، لكنها كانت منذ ولادتها الأولى وخلال ولاداتها اللاحقة ظاهرة أكثر مما هي مدينة عادية، هذا هو قدر ومصير هذه المدينة الرائدة دائما، والطموحة أبدا، والمختلفة دوما، والمتسرعة أحيانا، والمشاكسة صعودا وهبوطا.

دبي أو أي مدينة أخرى تسعى إلى اقتحام المستحيل والقيام بالأدوار الصعبة، تكون مثيرة للجدل وتستأثر بالاهتمام سلبا وإيجابا، في أوقات التمدد والانكماش، ولا عجب أن البعض يكتب عن دبي بقسوة والبعض الآخر يكتب عنها بمحبة، وعندما تتعرض المدينة للنقد بحدة كما يتم حاليا، فمن المهم تفهم هذه الحدة، ولا يجب الاعتقاد بوجود مؤامرة أو الجزم بأن المدينة مستهدفة لذاتها، فقراراتها التي تذهب بها صعودا أو هبوطا مصدر كل الاهتمام الداخلي والخارجي بها، وكذلك عندما يكتب البعض عنها بمحبة يجب تقدير المحبة لأنها محبة محقة وصادقة وترتبط بما أنجزته المدينة وهو كثير.

لقد أعلنت دبي بإرادتها الحرة أنها في سباق مع نفسها، وتود أن تتجاوز زمنها وتنافس كل من في محيطها، ولا يوجد في القاموس منافسة شريفة وأخرى غير شريفة، ومن حق الجميع خوض المنافسة والسعي للتميز بكل الوسائل، فدبي لا تحتكر التميز وليس من حقها احتكاره، ومن حق الآخرين الآن منافستها على الصدارة.

مهما كانت صعوبة المرحلة الراهنة، ومهما اشتدت الأزمة، فإنه لا خوف على ريادة دبي، فالمدينة تمتلك معطيات ومقومات البقاء في المقدمة، ومن الممكن جدا أن تشكل الأزمة المالية الراهنة فرصة ثمينة ونادرة ولا تعوض لبعض المدن الطموحة من أجل اللحاق بدبي، لكن لا يوجد في الأفق القريب من سيتمكن من تجاوزها كمركز مالي وتجاري وسياحي إقليمي وعالمي.

دبي ستظل متفوقة لكن من يراها كمدينة فاضلة، ويروّج لمثل هذه الفكرة فهو منافق، فالمدينة الفاضلة لا توجد سوى في مخيلة أفلاطون، كذلك كل من يعتقد أن دبي مدينة آثمة وفاشلة فهو أحمق وجاهل كل الجهل، ذلك أنها من أكثر المدن إصرارا على جودة الأداء، وهي من أكثر المدن عطاء وسخاء، وأهلها كأهل الإمارات جميعا من أكثر الناس محبة وطيبة وتسامحا واعتدالاً فكريا وسلوكيا وإصرارا على دعم المكتسبات والنجاحات.

هذه المدينة كأي مدينة أخرى لها ما لها وهو كثير، وعليها ما عليها وهو قليل، فالإيجابيات كثيرة وواضحة وتتحدث عن نفسها في مجالات الأمن والاستقرار والإدارة والبنية التحتية الحديثة والمتقدمة، والانفتاح الاجتماعي والطموح للوصول إلى العالمية، والسلبيات كثيرة وبنفس القدر من الوضوح ولا يمكن إخفاؤها أو الاعتقاد بعدم وجودها خصوصاً لجهة الاختلال السكاني، والتمدد الاقتصادي، والفساد المالي والإداري، والجشع المادي، والازدحام المروري والتوسع العمراني المبهر الذي اتضح أنه أكبر نقاط ضعف نموذج دبي.

لذلك لا بأس من كل ما يكتب، قدحا ومدحا، ولابأس في كل ما يقال شره وخيره، ولابأس في كل ما ينشر سمينه وغثه، فعندما تكون دبي مادة رائجة للإعلام فالأمر لا يحتاج للانزعاج والانفعال العاطفي حتى في أكثر الأوقات صعوبة كالوقت الراهن، فلا يمكن التسويق والترويج لهذه المدينة عبر الأقوال بل عبر الأفعال التي جلبت لها السمعة وجعلتها القدوة للمدن الخليجية والعربية.

معركة دبي الحقيقية ليست معركة إعلامية بل هي في المقام الأول معركة تتم على أرض الواقع، وبأكبر قدر من التركيز، هذه هي المعركة التي تخوضها دبي الآن والتي تتطلب سياسات متأنية، وقرارات مدروسة، وطموحات واقعية، ورؤية مرنة تتكيف مع المستجدات والأزمات علاوة على الإيمان العميق بعمل المؤسسات الذي لا بد من أن يحل محل عمل الأفراد، فدبي مليئة بالعقلاء الحريصين كل الحرص على إنجازاتها ومستقبلها والذين يمتلكون الخبرات والكفاءات. هذا هو وقت الاستفادة القصوى من مجمل المعرفة والخبرة والحكمة المتراكمة في المدينة.

تشير تجربة دبي إلى أن السعي نحو التفوق ليس معبداً بالورود، وطريق التميز صعب وطويل ومتعرج، وفيه مطبات عالية وأشواك شائكة، وفيه أيضا من الأعداء بقدر ما فيه من الأصدقاء، وأكثر ما يميز طريقا نحو التفوق أن فيه من الهبوط بقدر ما فيه من الصعود، ولا يمكن الاستمرار في الصعود طويلاً أو البقاء في القمة وحيداً، فكما أن هناك أوقاتاً للصعود فإن هناك وقتا للهبوط بكل أشكاله؛ الاضطراري والاختياري، البنيوي والآني والمزمن والمؤقت. الصعود والهبوط، سنّة من سنن الحياة وهما وجهان للمسار الممتع والمتعب نحو القمة.

الهبوط لا يعني سقوط الحلم وفشل النموذج وانهيار التجربة، كما أعلنت وسائل الإعلام الأجنبية المتنفذة، فلا يسقط الحلم نتيجة لخسارة بعض مليارات من الدولارات، ولا يفشل النموذج نتيجة لإعادة هيكلة شركة من الشركات وتأجيل مستحقات الديون، ولا تتوقف المسيرة بسبب أخطاء وتجاوزات وقرارات متسرعة، لذلك مهما جاء في الإعلام من حق أو من باطل، تظل دبي مدينة الأمن والأمان وقلب المنطقة التي لا تحتمل أكثر من قلب واحد.

* باحث وأكاديمي إماراتي

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top