حواجز


نشر في 03-07-2009
آخر تحديث 03-07-2009 | 00:00
 محمد سليمان ماذا تكتب؟ سألني البائع في إحدى أشهر مكتبات وسط القاهرة وعندما أخبرته أنني أكتب الشعر قال: «خسارة... لا أحد يريد الشعر في هذه الأيام. لم نبع في الشهر الماضي سوى ديوانين أحدهما لبيرم التونسي والآخر لصلاح جاهين» ثم نصحني بكتابة الرواية. وقد أصاب البائع في توصيف واقع انسحاب الشعر، وانحسار الاهتمام به وعزوف دور النشر عن نشره. وهو انحسار عالمي وقديم شغل الشعراء والنقاد وأرجعه البعض إلى إيغال الشعراء في التجريب والبحث عن الجديد والبعض الآخر إلى طبيعة العصر ومتغيراته. وأشير هنا إلى م. ل. روزنتال وكتابه «شعراء المدرسة الحديثة» الصادر في نيويورك عام 1960 وفي بيروت ترجمة جميل الحسني عام 1963، وحديث المؤلف في مقدمته عن تراجع الشعر والحواجز القائمة بينه وبين القارئ العادي: «ليس الشعراء هم الطائفة الوحيدة التي اهتمت منذ زمن طويل بالحواجز الهائلة القائمة بلا داع بين الشعر والقارئ العادي، وإنما يشاركهم هذا الاهتمام النقاد والمدرسون ومحررو الصحف وكثيرون غيرهم. ومن بين ما أسعى إليه في هذا الكتاب البحث عن وسيلة تساعد على تحطيم هذه الحواجز». وقد حاول المهتمون بالشعر إزاحة هذه الحواجز في الأعوام الأخيرة بتكثيف القراءات الشعرية في المكتبات والمقاهي وعقد المؤتمرات والمهرجانات، لكن هذه الجهود لم تزح الحواجز ولم تضاعف الاهتمام بالشعر رغم سعي معظم الشعراء في الأعوام الأخيرة إلى الاقتراب من القارئ وجذبه بتقنيات السرد والحكايات والسخرية وتوظيف لغة الشارع... وكان لهذه الحواجز أثرها على الشعراء الذين اكتشفوا أنهم يكتبون لأنفسهم أو لزملائهم ويكلمون ظلالهم وأن الهوة بينهم وبين الآخرين تتسع بشكل دائم.

«قلت لهم: في شارع طنطا

أتجول مثل الماضي

لأذكّر سحباً بي

وأكلم نخلاً في الميدانِ قديماً مثلي

وألاعب قططاً

قلت لهم: كالكرسي تماماً

أنحط هنا

أطرافي خشبٌ

وبلادي متر في مترينِ

وعلمي أبيضُ... وعصافيري

في الكراسةِ تلهو

وتظن الحبرَ غيوماً والورقَ سما»

تطارد هذه الهوة الشعراء من كل الأجيال والتيارات الفنية وتلقي بظلالها الكثيفة على قصائدهم وتدفعهم أحياناً إلى اليأس والاستسلام للعزلة باعتبارها ملجأ الشاعر وقدره. ويهزنا الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط أحد آباء قصيدة النثر العربية عندما يقول في إحدى قصائده:

«وأنا في خريف العمر / لم أعد أبالي / مستقبلي في قبري / وجمهوري الوحيد هو ظلي»

كما يواصل أحمد عبدالمعطي حجازي الذي أطلق قبل عقود صيحته الشهيرة «هذا الزحام لا أحد» حديثه عن التواصل المفقود والمنافي ولغة الشارع العجماء والهوة التي اتسعت بين الآخرين قائلاً في إحدى قصائده:

« لما تحررت المدينة عدت من منفاي

أبحث في وجوه الناس عن صحبي

فلم أعثر على أحد

وأدركني الكلال

وفزعت حين رأيت أهل مدينتي

يتحدثون بلكنة عجماء متجهين نحوي..

فابتعدت وهم أمامي

يتبعون تراجعي بخطى ثقال»

ولا يمكننا إرجاع انسحاب الشعر وانحسار الاهتمام به إلى صعوبته وغموضه. فالانحسار يلاحق الشعر بكل أشكاله ومدارسه الفنية في الشرق والغرب، والغموض كان ومازال صفة لغير المألوف والجديد والمختلف. ومن ثم فقد اتُهِم معظم الشعراء الحقييقين بالسعي إليه وتعمد إقصاء القارئ. وقد اتهم أحدهم الشاعر الأميركي الكبير جون أشبري بأنه يكتب لنفسه، وأن أحداً غيره لا يفهم شعره، فردّ أشبري قائلاً: «لست منعزلا... أو أتواصل في كتاباتي مع نفسي فقط، لكن قراءة قصيدة بحاجة إلى جهد وتركيز على النص وهذا التركيز هو آخر ما نريد أن نمارسه». والشاعر يرجع الأزمة كلها إلى غياب القارئ المسلح بالمعرفة والمدرب على التعامل مع الشعر. غياب هذا القارئ أو ندرته يعني فشل المؤسسات المسؤولة عن إعداده وتشكيله ويعني بالتالي تراجع الشعر وانحسار مملكته.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top