صيادون بشباك مختلفة 1

نشر في 21-05-2010
آخر تحديث 21-05-2010 | 00:01
 أحمد مطر لتخفيف وطأة غول العالم المستجد «أميركا»، نلجأ إلى التماس الأمل من الاتحاد الأوروبي. ونحن في انحدارنا عامدين إلى مثل هذه الخدعة العارية إنما نستر عجزنا، ونبالغ في تمويهه بلطخات متراكبة من مساحيق الرجاء والتطمين. وعلى رغم علمنا، نتيجة التجارب المتكررة، بأن الخيبة هي ما ينتظرنا في نهاية الطريق، فإننا لا نخجل من التحسر، كل مرة، قائلين: «إنهم لا يعرفوننا».

الواقع الذي لا شك فيه هو أنهم يعرفوننا أكثر مما يجب، لكنهم لا يريدون الاعتراف بنا. ونحن الذين نعرف هذا لا نريد الاعتراف بحمقنا حينما نطلب من الذئب صك اعتراف بالنعجة!

هؤلاء الأوروبيون الهادئون نسبياً، لم يكونوا أبراراً ولا طيبين، لكنهم وجدوا من هو أقوى منهم، فالتأموا حباً في البقاء، وتوجيهاً لصفعات القوة الجديدة نحو وجهة بعيدة، وليس في هذه الوجهة البعيدة أحد سوانا، إذ ليس في الدنيا كلها فريسة غيرنا تسابق ذاتها للارتماء طائعة في شباك الصياد.

ما من دولة أوروبية يمكنها أن تدعي أنها كانت بريئة من تلطيخ وجه الأرض بالدماء، ولم يشهد التاريخ دولة منها عفت عن الظلم إلا في حالة واحدة هي عندما تصبح «غير قادرة على الظلم»... فحتى سويسرا، هذه المصرفية الحسناء ذات الساعات الأنيقة الدقيقة، كانت قبل أربعة قرون قد أغرقت أوروبا بالدم، ولم يخفف سعيرها إلا نفاد طاقتها، ولم يؤدبها إلا تقطيع أوصالها.

ونحن المستجبرين من النار بالنار، نتناسى بصفاقة بالغة أن «إسرائيل»، وهي مركز مأساتنا، ليست إلا اختراعاً أوروبياً خالصاً: من الوعد إلى الاعتراف إلى التخمة النووية، وما أميركا، في النهاية، إلا «خلطة أوروبية» استقوت فاستورثت تركة أسلافها.

ماذا تكون أميركا؟ هل هي شيء آخر غير أولئك الغزاة الأوروبيين المدججين بالجشع والعدوان؟

أهي غير أولئك الذين وصلوا الى شواطئ الأرض الجديدة على لحم بطونهم، يطلبون كسرة لسد الرمق، فما كادوا يفيقون من غيبوبة الجوع حتى التهموا أيدي مضيفيهم، وأعملوا فيهم منجل الحصاد فأبادوهم عن بكرة أبيهم؟

ما يجري لنا، اليوم، على يد أميركا كان قد جرى لنا ولغيرنا بالأمس القريب على أيدي أسلافها الأوروبيين، وهو ذاته ما جرى بالأمس البعيد لأسلافنا سكان الأرض الجديدة. ومع ذلك فإن العلم بالأمور لا يزيدنا إلا جهلاً فنظل نعزي أنفسنا دائماً بأنهم «لا يعرفوننا».

كولومبوس الأحول ملاحياً، كان يظن نفسه قد وصل الى الهند، عندما وطئت قدماه الأرض الجديدة، لكن جهله بطرق البحر لا يعني جهله بأهل الأرض، فهو قبل توجهه الى ما ظنه الهند، كان قد أعد نفسه جيداً للتعامل مع قوم ذوي حضارة إسلامية، لذلك فلا غرابة في أن تكون العبارة الأولى التي وجهها إلى سكان تلك الأرض هي «السلام عليكم»، وعلى رغم وقوعه على قوم آخرين فإن الأمر لم يختلف كثيراً، لأن هؤلاء القوم لم يكونوا خلوا من القيم النبيلة، فقد استقبلوا هذا البحار وعصابته بحفاوة وكرم، وأبدوا لهم أجمل مظاهر السلوك الإنساني. ولذا فإن ما جرى لهم من مجازر لا يمكن تفسيره إطلاقاً بأن الأسبان «لم يعرفوهم جيداً» أو «أنهم بدوا للإنسان جماعات من المتوحشين»... كلا، إن ما أباد «الهنود الحمر» هو الجشع الأوروبي المدرع بالقوة الغاشمة ولا شيء غير ذلك.

في كتابه الرائع «أدفن قلبي في «وونديد ني»» يذكر الباحث الأميركي دي براون أن كريستوفر كولومبوس، بعد اختلاطه بسكان الأرض الجديدة كتب الى ملك أسبانيا وملكتها يقول: «هؤلاء الناس طيعون جداً، ومسالمون للغاية... أقسم لجلالتيكما أنه لا توجد على وجه الأرض أمة أفضل من هذه الأمة. هؤلاء القوم يحبون جيرانهم كحبهم لأنفسهم، ويتحدثون بعذوبة ولطف من دون أن تفارق الابتسامة شفاههم، وعلى رغم كونهم، في الواقع، شبه عراة، فإن سلوكهم محتشم وجدير بالثناء».

نحن هنا أمام رجل «يعرف»... فلماذا ترجمت هذه المعرفة الصافية الى أنهار من الدم؟ ولماذا فهم سلوك الهنود النبيل على أنه علامة ضعف إن لم يكن علامة تخلف وهمجية، بحيث هجم ملايين الأوروبيين كالوباء ليفرضوا طريقة حياتهم بالقوة على هؤلاء الناس الطيبين؟

كولومبوس نفسه، وفي سبيل تجربة إدخال هؤلاء الى «نعيم» الحضارة، لم يتورع عن خطف عشرة رجال من قبيلة «التاينوس» مضيفيه الودودين، وحملهم الى أسبانيا «لتشريفهم» بدخول عالم الرجل الأبيض، وتعميدهم كمسسيحيين، ليكونوا أول هنود يُتاح لهم إمكان دخول «الجنّة»!

وعلى خطاه مضى الأسبانيون «المتحضرون» ينبشون الأرض بحثاً عن الذهب والأحجار الكريمة، وفي طريقهم ينهبون القرى ويحرقونها ويخطفون مئات الرجال والنساء والأطفال، ويشحنونهم بالسفن الى أوروبا ليباعوا فيها كعبيد.

وعندما قاوم أولئك الهنود النبلاء للحفاظ على شرفهم، جوبهوا بكثافة البنادق والسيوف، وهي أسلحة لا قبل لهم بها، ما أدى الى فناء جميع أفراد تلك الطليعة من القبائل. في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1492، كانت أرواح مئات الآلاف من الهنود قد أزهقت بأيدي «رسل الحضارة»!

هذه مواصفات مادة واحدة من تركيبة «الخلطة الأميركية»، ولم تكن المواد الأخرى بألطف منها، لكن كل مادة كانت تتفاعل في الإناء وفق خصائصها المميزة، فقد كان أولئك الأوروبيون جميعاً صيّادين، لكن شباكهم كانت مختلفة، وهذا ما نستعرضه في مساحة لاحقة.

back to top