ما قل ودل: محاكمة سقراط ومحاكمة د. نصر أبو زيد أوجه الاتفاق والاختلاف

نشر في 25-07-2010
آخر تحديث 25-07-2010 | 00:01
 المستشار شفيق إمام في مقالي الأحد الماضي رحيل "د. نصر أبوزيد سقراط عصره"، أطلقت على المفكر الكبير الراحل والعالم الفذ لقب سقراط لأن هذا الفيلسوف كان أول مفكر في تاريخ الإنسانية يعدم بسبب أفكاره، كما كان الراحل د. نصر أبوزيد أول مفكر مصري يحكم بإعدامه بسبب أفكاره، نعم لقد كان الحكم الصادر بتكفيره، وارتداده عن الإسلام هو بمنزلة حكم بإعدامه معنوياً وجسدياً، فالمرتد جزاؤه القتل.

جريمتهما البحث عن الحقيقة: كانت تهمة سقراط هي الهرطقة، وهي تعني الكفر بالآلهة، كما كانت تهمة د. نصر أبوزيد هي الكفر بالارتداد عن الإسلام، ولكن الحقيقة التي غابت عن الذين نطقوا بالحكم في كلا القضيتين أن كلا منهما قد دافع عن حق الإنسان في أن يفكر ويتأمل ويبحث ويدقق، كان كلاهما باحثا عن الحقيقة، متعطشا إلى المعرفة، رافضا التسليم بقداسة فكر من سبقه من المفكرين، مطالبا بتجديد الفكر الديني. ولهذا كان من الطبيعى أن يكون كلاهما مثيرا للجدل، وأن يرفض آراءه وأفكاره، من احتكروا العلم والمعرفة والفلسفة في كلا العصرين. وكان من بين ما قاله سقراط للمحكمة التي حاكمته في دفاعه عن آرائه وآفكاره "أن من يدعى العلم من كل من ناقشت وحاورت، لا يفقه من العلم شيئا، والحقيقة هي أني أعلم الناس، لأني أعرف أني لا أعرف".

مفاجأة الدكتور نصر لأعداء الإسلام: وقد أثار عدم نطق د.نصر أبوزيد بالشهادتين أمام المحكمة التي حكمت بكفره وارتداده جدلا آخر هو ما أثاره نطقه بهما في أول محاضرة يلقيها في جامعة ليدن بهولندا بعد تركه مصر عقب صدور هذا الحكم، وهي المحاضرة التي شهدت حضوراً مكثفاً من جماهير المثقفين في الغرب الذين نزحوا من كل صوب وحدب، ليستمعوا إلى سيل من المطاعن في الإسلام من هذا الباحث والعالم والمفكر المرتد عن الإسلام، ولكنه باغتهم وفاجأهم بمفاجأة لم تخطر على بال واحد منهم، بأن بدأ محاضرته بالبسملة وبالنطق بالشهادتين، وبالحديث عن مناقب الإسلام وأثره على الحضارة الإنسانية، وأنه يعتز بدينه وإسلامه، وأنه حين رفض النطق بالشهادتين أمام المحكمة التي أدانته بالكفر، لأنه رفض أن تعود محاكم التفتيش التي تحاكم العقائد والضمائر والسرائر.

دعوى حسبة في المحاكمتين: وقد أقام الدعوى ضد سقراط أحد المواطنين هو ميليتوس، مثلما أقام دعوى الحسبة ضد الدكتور نصر أبوزيد مواطن مصري هو الراحل المستشار صميدة عبدالصمد، إلا أن الفارق بين القضيتين، أن النظام القضائي في أثينا لم يكن يعرف نظام الادعاء العام، الذي يقوم به موظف عام، يحقق في القضية ويجمع أدلتها قبل أن يقيمها، بل كان يسمح لكل مواطن بأن يقيم الدعوى، وأن نظامنا القضائي لا يعرف سوى نظام الادعاء العام الذي تقوم به النيابة العامة التي تمثل المجتمع في الدعوى العمومية.

خمسمئة قاض يحكمون بإدانة سقراط: ومثلما اختلف النظامان القضائيان في الحق في رفع الدعوى، فقد اختلفا كذلك في أن الحكم الصادر بإدانة سقراط بالهرطقة وإعدامه، قد صدر في أثينا من خمسمئة قاض، جرت أمامهم جميعاً محاكمة علنية، في ذلك العصر من الديمقراطية، والتي كانت تزخر فيه أثينا بالفلاسفة ورجال السياسة والأخلاق، يسعى إليها الناس لينقلوا عنها أصول الفكر والفلسفة.

خمسة قضاة يحكمون بإدانة د.نصر: أما الحكم الذي أصدرته محكمة الاستئناف بإدانة د.نصر أبوزيد بالكفر والارتداد عن الإسلام فقد أصدرته محكمة مشكلة من خمسة مستشارين، وأغلب الظن أنهم لم يقرؤوا ما كتبه، بل اكتفت المحكمة بالتقرير الذي قدمته اللجنة العلمية بالجامعة التي قامت بفحص إنتاجه العلمي عند ترشيحه للترقية إلى درجة أستاذ بالجامعة الذي انتهى إلى تكفيره، وهي اللجنة التي كان الدكتور عبدالصبور شاهين رئيسا لها، ومن مفارقات القدر، أن يتعرض الدكتور عبدالصبور شاهين للاتهام ذاته بالكفر بعد بضع سنوات بسبب ما ورد في الكتاب الذي أصدره "أبي آدم" مما اعتبره البعض كفراً.

تناقض الحكم بتكفير د.نصر ورسالة القضاء: وقد تناقض الحكم الصادر بتكفير د.نصر وطبيعة رسالة القضاء، فالقضاء أصبح الحصن الحصين والملاذ الأمين للحريات، وعلى رأسها حرية الفكر، لهذا لم تكن من الشرعة المعهودة في طبائع الأشياء أن يحاكم القضاء فكرا أو يصادر حرية من الحريات، أو يحجر على رأي، ولو خالف القاضي أصحاب الفكر والرأي في معتقداتهم وصواب ما يرون.

وهو التناقض الذي أشرت إليه في مقالي حول هذه المحاكمة بجريدة "القبس" في 5/7/1994 تحت عنوان "محاكمة فكر أم محاكمة مرتد".

اختلاف تنفيذ الحكم بالإعدام في المحاكمتين: كما كان هناك فارق آخر في تنفيذ الحكمين، الحكم الصادر بإدانة سقراط بالهرطقة وإعدامه، فقد كان سقراط يعلم بموعد تنفيذ الحكم بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس، بعد شهر من صدور الحكم، كما كان سقراط يعلم بالأداة التي يتم بها تنفيذ الحكم بإعدامه، وهو تجرع كمية من السم، يجهزها الجلاد خصوصاً لهذا الغرض.

أما الراحل د. نصر أبوزيد فلم يكن يعرف، متى ينفذ الحكم الصادر، بإعدامه جسدياً لارتداده عن الإسلام بعد إعدامه معنوياً، فقد أصبح تنفيذ هذا الحكم، فرض كفاية على كل مسلم، أي رهناً بيد أي فرد من آحاد المسلمين، يقابله في الطريق العام أو يقتحم عليه مسكنه، أو يتربص به ويترصد له وهو يلقي إحدى محاضراته لينفذ فيه حكم الشرع على مسلم مرتد.

كما كانت زوجة الراحل د. نصر أبوزيد تنتظر المصير ذاته، بعد أن رفضت تنفيذ الحكم الصادر بالتفريق بينها وبين زوجها الراحل، ولهذا قرر الزوجان الرحيل معاً إلى هولندا، حيث قاما بالتدريس في جامعة ليدن.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top