في انتظار «غودو»... وعبثية المشهد

نشر في 15-01-2010
آخر تحديث 15-01-2010 | 00:01
 فالح ماجد المطيري "انتظار غودو" عنوان نص مسرحي للكاتب الإيرلندي "صمويل بيكيت"، وباختصار يتحدث هذا النص عن بلدة صغيرة يعمها الفقر والجهل والمرض، وبدلاً من أن يبادر سكانها لحل المشاكل التي يعانونها، فإنهم يختلقون شخصية غودو الوهمية، ويقنعون أنفسهم أن وصوله إلى بلدتهم هو ما سيحل مشاكلهم؛ فيضيعون أعمارهم بانتظار غودو الذي لن يأتي، ولكنه وهم انتظار الغائب الذي يحمل في يده عصا سحرية تحل كل المشاكل، فأهل البلدة بعجزهم جعلوا انتظار أحد ما فضيلة، بينما البعض قد تكون فضيلتهم الوحيدة هي غيابهم عن حياتنا، بعد أن خلق حضورهم فيها أمراضا يصعب علاجها.

ومسرح بيكيت يسمى المسرح "العبثي"، ونقله عنه المسرحيون العرب؛ فأسموه "المسرح الجديد" أو "المسرح الطليعي" أو "اللامعقول"، ربما تخفيفاً لكلمة العبثي التي لها معنى سلبي في لغتنا، وعلى رأسهم الشاعر والمثقف اللبناني "بول شاؤول".

وظهر هذ المسرح في فرنسا بعد تحريرها من الاحتلال النازي، وهو إن كتب بلغتها، فإن معظم رواده ليسوا فرنسيين، إذا استثنينا "جان جينيه وفوتييه". وقد عزا بعض المحللين ظهور "المسرح العبثي" في فرنسا إلى أنه نتاج طبيعي للإرهاصات النفسية التي خلقها الاحتلال الأجنبي، وذلك مشابه لما مررنا به من عبثية في المجتمع الكويتي بعد الاحتلال العراقي، ولكن فرنسا نجحت في الخروج من عبثيتها إلى مجالات أوسع من العلم والمعرفة والحرية، بينما مازلنا إلى الآن نعيش هذه العبثية التي تسيطر على جميع مشاهد حياتنا.

من ضمن التنظيرات التي تبرر ظهور العبثية وانتشارها إلى جانب بعض الفلسفات مثل الفلسفة الوجودية وانتشار حركات اليسار، الرأي الذي يقول إن المجتمع الذي أدى إلى احتلال فرنسا وسقوطها في قبضة النازي بتلك السهولة، مجتمع فاسد غير قابل للإصلاح ويجب تدميره، هو وتقاليده الموروثة من القرن التاسع عشر، وقام الطلبة في فرنسا في عام 1968 بثورتهم الشهيرة، التي يعزوها "مارك كورلانسكي" في كتابه "1968 السنة التي هزت العالم" إلى طغيان رموز يسارية في تلك الفترة ألهبت حماس الطلبة وأوقدت عقولهم، مثل ماوتسي تونغ وهوشي منه وتشي غيفارا؛ وكان حقد اليسار الفرنسي قد بلغ مداه الأقصى على اليمين المسيطر، فشارل ديغول قد شاخ وقارب الثمانين وقد ملّوا منه رغم عظمته التاريخية، وتردي الحالة المادية للعمال والطبقات الكادحة أسقط كل مجد كان لبطل التحرير العظيم.

وزاد هذه الثورة توهجاً واشتعالاً ما سمي "ربيع براغ" أثناء تمرد تشيكوسلوفاكيا على الهيمنة السوفييتية، ونزل المفكر العظيم "جان بول سارتر" إلى الشارع داعماً للطلبة، واعتقلته السلطات، وقد أحست بفداحة تصرفها تجاه مفكر بحجمه فأطلقته بعد فترة قصيرة "بلا كفالة"، وكادت أن تحدث مواجهات دامية بين الطلاب اليساريين وقوات الأمن، بتحريض من اليمين المتطرف، الذي كان ينظر إلى الطلاب على أنهم مجموعة من "السياسيين المراهقين".

وبالعودة إلى مسرح "بيكيت" فنصوصه تتميز بغياب الغايات والنهايات، كما هو حال واقعنا، وهي سيلان للكلام من دون رابط، كما هي حال المشهدين السياسي والإعلامي لدينا، ونصوصه لا تتحرك من مكان إلى مكان أو من زمان إلى آخر، بل إنها تراوح مكانها كحال حكومتنا "الرشيدة"، التي أدمنت العبث ولا تنوي التخلي عنه.

دفعت تلك الثورة السلطات الفرنسية إلى إجراء إصلاحات عديدة على المجتمع انتشلت فرنسا من الحالة العبثية التي كادت أن تودي بالنظام الرأسمالي بها، وأن تؤسس لثورة ماركسية في قلب أوروبا؛ فتحسنت أحوال الطبقتين الوسطى والعمالية، وأدخلت إصلاحات على النظام الجامعي وتطورت البرامج التعليمية والحياة الثقافية بشكل عام، مما أتاح المجال لظهور تيارات فكرية جديدة، كتيار البنيوية الذي أسقط سارتر وفلسفته الوجودية.

أما نحن... فماذا قدمت حكومتنا لانتشالنا من هذه الحالة العبثية التي طالت، باستثناء تصريحات الشيخ أحمد الفهد عن التنمية الوهمية، التي يبدو من خلالها أن معاليه من المعجبين بمسرح "صمويل بيكيت العبثي"؟ فهل هناك عبثية أكثر من أن تدعو الحكومة إلى جلسة خاصة بالتنمية، وتكون هي أول المتخلفين عن حضورها؟... إذن فلننتظر غودو.

back to top