باكستان... مستقبلٌ غامضْ وأفقٌ مسدود!

نشر في 09-08-2010 | 00:01
آخر تحديث 09-08-2010 | 00:01
No Image Caption
طالما شكّلت لاهور موطن النخبة المثقفة الباكستانية. لكن مدينة التسامح هذه باتت اليوم هدف طالبان المفضّل. وتدفع هذه التطورات أحد أبرز الكتّاب الباكستانيين، أحمد رشيد، الذي تُعتبر كتبه بالغة الأهمية في الأكاديميات العسكرية الغربية، إلى فقدان الأمل في إنزال الهزيمة بالمجاهدين الإسلاميين.
يظهر في صورة صغيرة معلّقة على جدار مكتب رشيد رجل جدّي لحيته سوداء طويلة يرتدي عباءة بيضاء. هذا الأفغاني أحد أسياد الحرب الذين وقفوا سداً منيعاً في وجه الغزاة من الشرق والغرب طوال قرون. كان رشيد يقف إلى جانبه محدّقاً إلى الكاميرا بنظرة خالية من أي تعبير.

يُدعى الرجل المرتدي الأبيض جلال الدين حقاني، زعيم قبيلة في شرق أفغانستان. التُقطت هذه الصورة قبل 22 سنة. في تلك المرحلة، كان حقاني يهزأ بأعضاء طالبان، معتبراً إياهم مجرد ريفيين جهلة وُلدوا في معسكرات اللاجئين الباكستانية، تعلّموا في المدارس الدينية الإسلامية، واتّبعوا قادة متعصبين من فلسطين والمملكة العربية السعودية ومصر. كان لا يزال على حركة طالبان آنذاك تعلّم الحروب. ولتنجح في ذلك ارتكبت كثيراً من الأخطاء، فخسر عدد من قادتها إحدى عينيهم أو يديهم أو قدميهم.

افتقر مقاتلو طالبان إلى الحد الأدنى من الثقافة، وما كانوا يعون ما يدور من حولهم. حتى أنهم لم يطلعوا على تاريخ البشتون وتاريخ بلدهم، ولم يعرفوا معنى الحياة في مدينة فعلية. أما حقاني، فكان سيد حرب في قبيلته، وقد قام بأسفار كثيرة. فالتقى ذات مرة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان في واشنطن. إذاً، كان حقاني، الذي بلغ اليوم الستين، أفغانياً حقيقياً. أو هذه كانت على الأقل نظرته إلى نفسه ونظرة أفغانستان إليه.

يبتسم رشيد بصمت فيما يتأرجح في كرسي مكتبه، واضعاً يدَيه وراء رأسه. يبلغ هذا الرجل الودود صاحب الصوت الجهوري الدافئ الثانية والستين من عمره. وقد تحوّل هذا الباكستاني المتواضع إلى مؤرّخ منطقته.

تبيّن لاحقاً أن هذين الرجلين كانا مخطئين. فقد اعتقد سيد الحرب ذاك أن على المحاربين الأفغان المهمين أن يكونوا مثله. وأخطأ حين استخفّ بطالبان. أما رشيد، فقلل من أهمية القوة الهائلة الكامنة في إيمان طالبان البسيط. فلا يهاب أعضاء هذه الحركة الموت، ويمكن تحويلهم إلى أسلحة سياسية. وقد تعلموا منذ ذلك الحين القتال، وصار شن الحروب جزءاً لا يتجزأ من حياتهم. وهم بالتأكيد ليسوا دمى في يد الزعيم الإرهابي أسامة بي لادن، بل خطر مميت قائم بحدّ ذاته.

يعيش التاريخ

قام رشيد بأسفار كثيرة إلى أفغانستان خلال السنوات الثلاثين الماضية. لذلك، جمع معلومات واسعة جداً عن هذا الجزء من العالم. وهو شخصية مميزة، لا لأنه يدوّن التاريخ، بل لأنه يعيشه أيضاً.

في عام 1979، كان رشيد في كابول، حين غزت الدبابات السوفياتية البلد. وكان في قندهار في عام 1994 عندما سيطرت حركة طالبان على المدينة، متسبِّبة بحمام دماء. كذلك، شهد شخصياً مأساة كبرى في هذا الجزء الغريب البعيد من العالم. كان رشيد قد ألّف كتبه عندما حدثت هذه المأساة وحملت العالم على صبّ اهتمامه كله على أفغانستان وباكستان ووسط آسيا.

شكّلت كتب رشيد أول مصدر اطّلع من خلاله الغرب على أصول المجاهدين ومرشديهم. فكان رشيد أول مَن كتب عما يعرفه الغرب اليوم عن أسياد الحرب في أفغانستان (الحقانيون في الشرق والدستوميون في الشمال والخانيون في الغرب) وعن تحالفاتهم المتضاربة مع وكالات الاستخبارات الباكستانية والتركية والإيرانية. ولا يزال كتابه الأكثر شهرة، {طالبان}، إحدى المواد التي على الضباط في الأكاديميات العسكرية البريطانية والأميركية قراءتها.

ألّف رشيد هذا الكتاب عام 1999، قبل سنتين من اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول). فحدد فيه هوية حركة طالبان وتفسيرها الإسلام ومدى اتساع تأثيرها ونفوذها والدور الذي أداه بن لادن والعرب. فحوّل كتاب {طالبان} هذا المفكر الباكستاني إلى شخصية ذات شهرة عالمية. هكذا، اكتسب فجأة سلطة حصرية تخوِّله تفسير ظاهرة جديدة في عالم السياسة وتوضيحها. فبيع مليون ونصف مليون نسخة من كتابه هذا في العالم الأنغلو- أميركي وحده، وتُرجم إلى 26 لغة.

في البيت الأبيض

تحوّل رشيد منذ ذلك الحين إلى مرجع. فبعد اعتداءات مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع الأميركية، طلب البيت الأبيض 28 نسخة من {طالبان}. والتقى رشيد وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد لمناقشة آرائه. وانهالت عليه الدعوات من أمثال بول ولفوفيتز من المحافظين الجدد ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. كذلك، دعاه الرئيس باراك أوباما إلى مأدبة عشاء قبل استلامه منصبه، حين كان أوباما نفسه يبدو غير مطّلع جيداً على الوضع في أفغانستان.

لا يتمتع أي مفكّر آخر بهذا المقدار من التأثير. ونظراً إلى شهرته هذه، يُعتبر اعتزاز رشيد بنفسه مبرراً.

في ألمانيا، حظي الكاتب هانس ماغنوس أنزنسبرغر بتأثير مماثل. لكنه بخلاف رشيد، طمح الى أن يكون مستشاراً لقادة سياسيين. وفي فرنسا، أدى بيرنار هنري ليفي دور مفكّر الشعب. إلا أنه نال من خلال هذا الدور حظوة كبيرة، وبرهن أنه يسعى وراء إعجاب الآخرين. أما البريطانيون، فيفضّلون المفكّرين الأكثر جدية، مثل إيان بوروما وتيموثي غارتون آش.

التسامح مهدّد

لكن رشيد لا يعيش في ميونخ أو باريس أو لندن، بل في لاهور بباكستان، بلد يعاني دوماً مخاطر واضطرابات. فقد وسّعت طالبان، حركة كتب عنها رشيد مطولاً، جهودها إلى أبعد مما تعتبره الصراع التحريري الوطني في أفغانستان. وانتقلت إلى باكستان وإلى لاهور، مدينة تحتوي على كثير مما تكرهه هذه الحركة وتريد تدميره.

لا تزال لاهور مدينة جميلة، فهي جوهرة باكستانية تضمّ مسجد باد شهاي وحدائق شاليمار وقلعة مميزة تقبع خلف أسوار بهيّة. خلّف البريطانيون وراءهم في هذه المدينة مدارس وجامعات كثيرة. ومع أن شوارعها تزدحم بالدراجات النارية المحمّلة بالركاب، إلا أنها لم تتخلَّ عن العربات التقليدية التي يجرّها الحمار.

جغرافياً، تشكّل لاهور، التي تعدّ 10 ملايين نسمة، استثناء فريداً بين مدن آسيا الكبرى. فهي أنظف وأقل اكتظاظاً من نيودلهي وكاراتشي وبانكوك. كذلك، تبدو أكثر انفتاحاً، فمقدّمة البرامج الأكثر شهرة في المدينة متحوِّل جنسياً. لكن لاهور باتت اليوم مكاناً يتعرض فيه الانفتاح لهجوم قاس.

لاهور تبدّل عاداتها

تحجب لافتات كبيرة مشهد أبنية المصارف الضخمة في وسط لاهور. وقد شُيدت وراء هذه اللافتات جدران من أكياس الرمل للتصدي لأي عملية تفجير.

تتدفق الطالبات المحجّبات من جامعة الملك إدوارد الطبية، بناء أبيض جميل يعود إلى زمن الاستعمار. لكن مجموعة من الإسلاميين هاجمت أخيراً عدداً من الفتيات غير المحجبات والشاب الذي كان يرافقهن. وعندما تريد منظمة أجنبية تنظيم حدث ما (مثلاً، حين رغبت منظمة هنريخ بول الألمانية إقامة حفلة وداع لمديرها)، عليها التقدّم بطلب للحصول على ترخيص. لكنْ لهذا الترخيص شروط: ممنوع إلقاء الخطابات ذات الطابع السياسي، ممنوع انتقاد الحكومة، ولا يُسمح للنساء بالرقص.

يشوب الحذر اليوم جميع أوجه الحياة في لاهور، التي بدأت تبدّل عاداتها. فتعمل حكومة المدينة على الحدّ من الأهداف التي قد تستهدفها طالبان. وتعاني المدينة صدمة قوية منذ هزّتها سلسلة أخيرة من تفجيرات وعمليات انتحارية. لذلك، بدأت الشركات الأوروبية والآسيوية تغادر المدينة. ولا شك في أن هذه الخطوة قد تعود بنتائج كارثية على باكستان، التي ما كانت لتنجح في تخطّي الأزمة الاقتصادية المتواصلة لولا الاستثمارات الدولية ومليارات الدولارات من المساعدات الأميركية.

في شهر مايو (أيار) الماضي، لقي أكثر من 90 شخصاً حتفهم في تفجير مزدوج في اثنين من مساجد لاهور. وبعد هذا الاعتداء، تبدلت أوجه الحياة كافة في المدينة. شكّل هذا الاعتداء نقطة تحول في لاهور، لأنه برهن بشكل حاسم أن حركة طالبان الباكستانية موجودة حقاً. تتعاون هذه الحركة مع حركة طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة التابع لبن لادن، وتشنّ اليوم حرباً على جبهتين: أفغانستان وباكستان. لكن طالبان تعتبر باكستان أكثر أهمية من أفغانستان بسبب ترسانتها النووية.

في غير مكانه

يعيش رشيد في حي تقطنه الطبقة الوسطى واتُّخذت فيه تدابير أمنية مشددة. فيُضطر السائقون إلى الالتفاف ببطء عبر سلسلة حواجز أُقيمت في الشارع الرئيس العريض الذي يعبر الحي، فيما يفتش الجنود المدججون بالسلاح السائقين والسيارات. يعيش في هذا الحي، الذي يُدعى {كانْت}، أعضاء من الجيش وأجهزة الاستخبارات. يقيم هؤلاء في منازل ضخمة تحيط بها أسوار عالية. وتسيَّر في الشوارع أمامها دوريات رجال الأمن وسيارات الشرطة.

يبدو رشيد في غير مكانه في هذه البيئة. ففي كتبه، وصف سعي الجيش والاستخبارات الباكستانية منذ البداية إلى تغذية طالبان والمجموعات الإرهابية الأخرى وحمايتها، لأنهما اعتقدا أن باستطاعتهما التلاعب بها. لكن استراتيجتهما هذه لم تفلح على الأمد البعيد، إذ بدأت المجموعات الإرهابية باتباع مخطّطها الخاص. والمفارقة أن رشيد وعائلته يعيشون اليوم في منطقة آمنة نسبياً بين أناس لا يكنّ لهم رشيد الاحترام، ولا ينظرون هم إليه نظرة احترام.

يقع مكتبه في غرفة كبيرة في منزله تغطي جدرانها رفوف الكتب. جلس حميد كرزاي ذات مرة على الأريكة في هذا المكتب (قبل أن يصبح رئيس أفغانستان) وناقش مع رشيد ما إذا كان عليه العودة إلى أفغانستان وماذا ينتظره هناك. أخفض رشيد صوت التلفزيون القابع في إحدى الزوايا، فيما كان الجنرال الأميركي ديفيد بتريوس (الذي أرسلته واشنطن إلى أفغانستان لإصلاح الوضع هناك) يتحدث عن أساليب اعتمدها لتحسين الأحوال في العراق. ثم عاود رفعه عندما انتقل بتريوس للكلام عن العمل الصعب الذي ينتظره وعن صعوبة الوضع وعن قدومه إلى أفغانستان للفوز بالحرب. كان بتريوس يتحدث بصوت رتيب مليء بالحزم. فعلّق رشيد على ما كان يسمعه قائلاً إن الولايات المتحدة استعادت رشدها إنما في وقت متأخّر جداً. فقد اعتبر الأميركيون العراق أكثر أهمية.

وجهة نظر مزدوجة

يرى رشيد العالم من منظارين مختلفين، أحدهما باكستاني والآخر بريطاني. وُلد رشيد في باكستان ويقيم فيها اليوم. لكنه أمضى سنواته الباكرة في إنكلترا، حيث حصّل علومه الابتدائية حتى الجامعية (درس في كامبريدج). كان والده مهندساً تأثر كثيراً بالاستعمار البريطاني وتمتع بقدرة كبيرة على تنمية المواهب المحلية. وبعد تأسيس باكستان، انتقلت عائلته إلى لندن.

لرشيد طريقة تفكير غربية، وهو يفهم مختلف أنماط الفكر الغربي. لكن هذا الباكستاني يثير قلق الغرب، لأنه يلفت انتباهه إلى المنحى الذي تتخذه التطورات في هذا الجزء من آسيا. ولا يحاول رشيد مطلقاً تبسيط الأمور، لأنه يعي أنها بعيدة كل البعد عن البساطة.

في أفضل كتبه حتى اليوم، Descent Into Chaos، يصف رشيد التراجع الذي اختبرته باكستان وأفغانستان منذ 11 سبتمبر عام 2001. ويشكّل هذا العمل خلاصة تجاربه، ويمتاز بلهجة أكثر تشاؤماً من كتبه السابقة.

استباق الأمور

تبدو الأوضاع في هذا الجزء من العالم معقّدة إلى حدّ الجنون. فيسعى كل بلد إلى التأثير في جميع الدول الأخرى في المنطقة. فلكل دولة حدود مشتركة مع بلدان المنطقة كافة. لذلك، على مَن يدرس الوضع الأفغاني أن يأخذ في الاعتبار الوضع الباكستاني، لأن الجيش وأجهزة الاستخبارات الباكستانية مصمّمان على أن يكون لهما نفوذ واسع في كابول عندما ينسحب الأميركيون.

كذلك، على كل مَن يتأمل الوضع الباكستاني أن يأخذ الهند بالاعتبار بسبب جنون الارتياب المتبادل الذي يبتلي هاتين الدولتين. أما مَن يبحث في وضع الدولة الإيرانية المجاورة، فعليه ألا ينسى صراعها مع الولايات المتحدة بسبب برنامجها النووي. وتظن إيران أن الولايات المتحدة قد تستخدم قواعدها في أفغانستان خلال أي هجمات تقليدية قد تنفّذها عقب ضربة نووية. وإذا قررت الولايات المتحدة البقاء في أفغانستان لفترة أطول من المتوقّع، فلن يسرّ هذا الوضع الصين وروسيا.

تؤكّد الوثائق العسكرية الأميركية السرية عن المهمة في أفغانستان التي سرّبها موقع ويكيليكس (نشرت صحف {شبيغل} وThe Gardian

وNew York Times مقتطفات منها قبل أسبوعين) ما كتبه رشيد عن دعم الاستخبارات الباكستانية طالبان.

طالما نجح رشيد في استباق الأمور. ويقول اليوم إن كرزاي كان سيُسرّ بهذه التسريبات لو أنها حدثت منذ بضعة أشهر. لكن كرزاي يشعر اليوم بأن الأميركيين لن يهزموا طالبان وأن المحادثات مع هذه الحركة ستفشل. لذلك، يسعى اليوم إلى تحسين علاقاته مع باكستان وإيران. ويضيف رشيد موضحاً أن كرزاي ربما يأمل أيضاً بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار وتشاطر السلطة في أفغانستان من دون العودة إلى الأميركيين.

اليأس من الغرب

دُعي رشيد إلى مأدبة تقيمها أسماء جهانكير، امرأة ذائعة الصيت في باكستان. فهي محامية ومناصرة للمحكمة العليا الباكستانية. ويشكّل المحامون، أمثال جهانكير، وقضاة المحكمة العليا مجتمع باكستان المدني، لأن السياسيين المدنيين في البلد ضعفاء أو فاسدون أو الإثنان معاً. ويُعتبر أعضاء النخبة الفكرية المتحرّرة هؤلاء شوكة في خاصرة المتعصّبين دينياً. لذلك تبقى حياتهم معرّضة لخطر دائم.

اجتمع الضيوف في غرفة جدرانها مغطّاة بالخشب كانت في ما مضى جزءاً من حانة بريطانية. ارتدى معظم النساء الساري وبدون واثقات من أنفسهن ومثقفات جداً. راح الموجودون يتجاذبون أطراف الحديث ويناقشون آراءهم في أوباما ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والجنرال بتريوس، كما لو أنهم ضيوف في برنامج حواري صباحي على إحدى المحطات التلفزيونية الأميركية. فقد أمضوا كلهم سنوات في لندن ونيويورك ومدن غربية أخرى. ومع أنهم يعلّقون آمالاً كبيرة على الغرب، إلا أنهم بدأوا ييأسون منه.

يشكّل هؤلاء جزءاً من جيل رشيد، جيل وُلد قبيل الاستقلال الباكستاني أو بعيده. ويُعتبر جيلاً محظوظاً لأن أفراده عاشوا في الغرب ويستطيعون مغادرة البلد في أي وقت في حال تدهورت الأوضاع. غير أنهم حُرموا من أمر تتمتع به النخب المثقفة كافة في البلدان الديمقراطية الأخرى: فرصة المشاركة في السلطة السياسية.

سيطرة الجيش

يسيطر الجيش في باكستان على البلد. نشأت باكستان إثر صراع دموي عنيف في عام 1947، حين انتقل قسم كبير من المسلمين الذين كانوا يعيشون في ما يُدعى اليوم الهند إلى دولة باكستان المستقبليّة. في المقابل، هاجر الهندوس في باكستان إلى الهند. وقد ارتكب الطرفان مجازر فظيعة بحق الطرف الآخر. طوال السنوات الثلاث والستين الماضية، تعاقبت على الحكم في باكستان سلسلة من حكام عسكريين متقلّبين وحكومات مدنية غير مستقرة.

يحدِّد كل من الحكومات المدنية والجيش المصلحة الوطنية. لكن القادة العسكريين الباكستانيين يرفضون الإصلاح. ويريدون، بدلاً من ذلك، إضافة مزيد من الأسلحة النووية إلى ترسانتهم، في محاولة منهم للاستعداد لأسوأ ما قد يطرأ: صدام نووي مع الهند.

بعد اعتداءات 11 سبتمبر، أمل جيل رشيد أكثر من أي وقت مضى في أن تستعيد باكستان صوابها أو يرغمها الأميركيون على ذلك. وتعمل الولايات المتحدة بنشاط، مقدمةً مليارات الدولارات لهذا البلد. لكن عندما تتعقد الأمور، يميل الرؤساء الأميركيون إلى دعم الجيش الباكستاني، الذي يعتبرونه معقل التفكير المنطقي الأخير.

ماضٍ حافل

كانت الشمس قد شارفت على المغيب، وإسبانيا تستعد لهزم ألمانيا في التصفيات نصف النهائية في بطولة كأس العالم لكرة القدم. وبما أن زوجة رشيد إسبانية، بدأ المنزل يمتلئ بالضيوف. بدا رشيد مرتاح البال بعدما أنهى بنجاح مقابلة مع إحدى الصحف. لكنه كان لا يزال يملك قصة مثيرة واحدة ليرويها. تدور هذه القصة حوله وحول السنوات الباكرة التي أمضاها كمؤرخ لتطورات هذا الجزء من العالم. فقبل تحوّله إلى مفكّر بارز، مرّ رشيد بمرحلة ثائرة من حياته، مرحلة خلت من أي لهو وعبث.

في عام 1968، كان رشيد طالباً في جامعة كامبريدج. وكانت ثورات الطلاب، التي شهدتها أواخر ستينيات القرن الماضي، لا تزال في المهد. شكّل رشيد النسخة الباكستانية من جيله، الذي قرأ كتابات ماو وتروتسكي ولينين واعتبر تشي غيفارا بطله. وهكذا علق رشيد ونظراؤه في فيض جامح من عواطف تلك الحقبة، عواطف استمدت زخمها من كره عميق لحرب فيتنام.

كان رشيد واحداً من أربعة باكستانيين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجموعة لندن"، اسماً بدا مهماً في نظرهم. لم ترد هذه المجموعة الاكتفاء بالقراءة ومحاولة التظاهر، بل رغبت في تبديل بلدها بطرق ثورية. وبدأوا تنفيذ مخططهم هذا بالسفر إلى بيروت، حيث تعلموا استخدام الأسلحة وتلقوا تدريبات قتالية أساسية في أحد مخيمات التدريب.

إلى الجبال

عندما عادوا إلى باكستان، كان البلد يعاني إحدى أصعب الأزمات التي هددت كيانه. فعقب حرب الاستقلال عام 1971، انشق شرق باكستان وأطلق على نفسه اسم بنغلادش. وبدا أن البلد برمته، الذي رُكِّب بطريقة اصطناعية منذ البداية، على وشك التفكّك. فكانت المؤسسة الحاكمة أضعف من أي وقت مضى. واعتبر رشيد وزملاؤه أن هذه فرصة كبيرة لإحداث التبديل الذي طمحوا إليه.

لكن من أين يبدأون ثورتهم؟ انطلق تشي، مثلهم الأعلى، من الجبال ونزل إلى المدن. هكذا تحولت باكستان إلى كوبا في نظرهم. ووقع اختيارهم على بلوشستان، إقليم فقير حيث كانت القبائل الجبلية تحارب طوال سنوات في سبيل الاستقلال أو على الأقل نيل حكم ذاتي.

اتصل الرجال الأربعة بزعماء القبائل في الجبال. ودخلوا عالماً كان غريباً عنهم تماماً. أطلقوا على أنفسهم لقب "قائد". واقترحوا طرقاً لتحسين محاصيل الفلاحين، وعالجوا مشاكل العناية الطبية. كذلك نشروا الصحف وعلموا الأولاد. وكان رشيد خلال أوقات فراغه يكتب القصائد والقصص القصيرة، متخيلاً نفسه كاتباً في ثورة.

أرسل الجيش مئة ألف جندي إلى الجبال. وحصدت الحرب أرواحاً كثيرة. لكن هذا الصراع بدا غريباً، إذ كان الجيش يهاجم صيفاً والميليشيات شتاء. واستمرت حالة الكر والفر هذه طوال عشر سنوات. عندما أصبحت الحياة في الجبال أصعب من أن تتحملها النساء والأولاد، أوكلت إلى رشيد مهمة نقلهم إلى أفغانستان.

مواد قيّمة

كانت هذه أول زيارة لرشيد إلى أفغانستان، حيث تفاوض مع زعماء القبائل وأسياد الحرب المحليين لتحديد المكان الذي سيسمحون لعائلات بلوشستان بالنزول فيه. ثم توجه إلى كابول سيراً على الأقدام ليصلها في شتاء عام 1979-1980، حين سار الروس نحو المدينة. هكذا، فاز رشيد بفرصة لم يحظَ بها مؤرخون كثر.

أثّر الوضع الجديد في أفغانستان على مصالح الجيش الباكستاني. وبما أنه أراد التخلص من حرب لا طائل فيها في بلوشستان، وقّع اتفاق وقف إطلاق نار مع القبائل وعرض على الثوار الأربعة فرصة العودة إلى المدن، واعداً إياهم بالعفو.

هكذا، سافر رشيد إلى لندن لزيارة والديه والاعتناء بصحتهما. فقصد طبيب الأسنان، خضع لعلاج لظهره، وتعافى من سنوات طويلة من الإرهاق الجسدي. بعد ذلك، وحّد الجهود مع مصور فرنسي كان قد التقط صوراً للدبابات الروسية في كابول. وأخذا يدقان أبواب الصحف البريطانية. صحيح أن رشيد أراد الكتابة عن صراع الحرية في بلوشستان، لكن المحررين في مكاتب الصحف الأجنبية لم يهتموا إلا بالمواد القيمة التي كان هذان الرجلان يملكانها عن الغزو السوفياتي لأفغانستان. وهكذا انتهى المطاف برشيد إلى كتابة أول مقال مهم له عن أفغانستان والقوة العظمى التي اجتاحت هذا البلد لتبدّل الأوضاع فيه.

خسارة التفاؤل

هل ذهبت السنوات العشر التي أمضاها في أداء دور الثوري في الجبال سدى؟ يضحك رشيد ويهز كتفيه، مؤكداً أنها أدت في النهاية إلى أمر جيد.

كان من الممكن أن يموت في بلوشستان. وكان عندئذٍ سيُعتبر نسخة باكستانية حقيقية عن تشي غيفارا. لكنه انطلق في أسفاره، محاولاً فهم ما يحدث في العالم المعقّد الذي ولد فيه، فأصبح مؤرخاً ولم يغفل يوماً عن واقع أن الصراع الذي بقي مشتعلاً في أفغانستان طوال سنوات قد يمتد إلى باكستان في أحد الأيام.

حلّ هذا اليوم. ففي نظر طالبان، لاهور هي نيويورك الباكستانية. لذلك، بدأ أحمد رشيد الدائم التفاؤل يفقد تفاؤله تدريجاً.

back to top