شذرات إلياس كانيتي إلى العربيّة... كاتب اليأس والمرارة
حسناً فعل المترجم والكاتب المغربي رشيد بو طيب في ترجمته «شذرات» الروائي العالمي إلياس كانيتي (عن «دار الكلمة» - أبوظبي)، فهذا الكاتب على رغم أهميته لم يُترجم له إلى العربية إلا كتاب «أصوات مراكش» وبعض النصوص الأخرى، علماً أن باحثين عرباً كثيرين اهتموا بكتابه «الحشد والسلطان» وهو بمثابة عظمة الحقيقة المجازية عن الموت، السلطة، الجمهور والهذيان...يقول رشيد بو طيب في مقدمة «الشذرات»: «في كتابه النقدي «فهود في المعبد» الذي ترجمه أخيراً الصديق أحمد فاروق بألمعيته المعهودة، يتعرّض الناقد الألماني ميشائيل مار في الفصل الذي خصصه كانيتي إلى شذرات هذا الكاتب الكبير، ويرى أنه باستثناء البعض منها، فإن التقدير الذي تلقته كان مبالغاً فيه. وينتقد مقارنة تلك الشذرات بما كتبه ليشتنبرغ، معتبراً أنه لدى الأخير «لا يمكن أن تقلب عبارة إلى ضدها من دون أن تفقد الجملة معناها. أما لدى كانيتي فيمكننا أن نقلب ثلث شذراته عشوائياً من دون أن نلحظ إطلاقاً أن الجملة فقدت معناها». لكن هل هذا فعلاً ما يحدد الشذرة وما يكسبها أهمية أو يجردها منها؟ الإجابة طبعاً بالنفي، فلا يمكنني أن أقول عن شذرة مثل «المياه كلها بلون الغرق» لإميل سيوران إنها عديمة الأهمية لأنها لا تفقد معناها إذا قرأناها بالمقلوب «الغرق كله بلون المياه»، طبعاً ليس هذا ما يكسب الشذرة شراستها وقلقها وما يجعلها تتردد داخلنا وتسكننا وقتاً طويلاً، إضافة إلى أن ميشائيل مار ينسى أن هذه الشذرات ظهرت بعد وفاة الكاتب، وأن كانيتي لا ريب كان سيسقط من كتابه الكثير منها، لا سيما أنها لا تتمتع فعلاً بقوة الشذرة كما عهدناها لديه، ولدى ليشتنبرغ ونيتشه وجون بول وكارل كراوس، حتى لا نذكر سوى كتاب الشذرة داخل الثقافة الألمانية. ومع ذلك فإن مار يشير إلى خاصية مهمة ميزت كانيتي عن غيره، وجعلته قريباً في رأيي من نيتشه، رغم تمرده عليه، وهي ما يسميها «بالنظرة الشرسة» والتي نصادفها لا ريب في الكثير من شذراته».
يضيف بو طيب: «في مكان آخر الشذرة فن اللغة بامتياز. جنس أدبي يقع بين الشعر والفلسفة، إلا أنه أبعد ما يكون عن الشعر، لأنه محكوم بالعقل وليس بالإحساس. ولا يمكن أن نختزله في قواعد معينة. إنه لعب بالأنظمة الشعرية والفكرية. وروح الشذرة روح إشكالية. إنها أسلوب عالم فقد ثقته بقيمه وأشكاله، عالم يحن إلى بدء جديد. لهذا، فإن الشذرة كما عبر عن ذلك فريدريش شليغل، فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، ويظل معاصروه عاجزين عن فهمه أو تقبله غالباً». باتت الشذرة الفن الرائج في السنوات الأخيرة، شعراء كثيرون يلجأون إليها في اعتبارها أكثر إمتاعاً من القصيدة، والروائيون يلجأون إليها أيضاً في اعتبارها فناً يجذب القارئ، وكانيتي أحد العالميين الذين أبدعوا في هذا الجنس الأدبي إلى جانب أميل سيوران ونيتشه والألماني كارل كراوس وأدباء وفلاسفة كثيرين، غير أن العالم يعرف أكثر أدب كانيتي عبر بحثه في العمق الإنساني، هو مثل فرانز كافكا أجاد في توصيف الوجود الإنساني. يقول كانيتي: «ولدت في بلغاريا، غير أن لغتي الأم لم تكن البلغارية، بل الأسبانية القديمة التي كانت سائدة في أسبانيا في القرن الخامس عشر والتي حافظت على نقائها في تركيا والبلدان الأخرى التابعة للإمبراطورية التركية، إذ جاء بها اليهود الهاربون من ملاحقات محاكم التفتيش في أسبانيا إلى هناك. كانت هذه اللغة لغتي الأم في السنوات الست الأولى من حياتي. بعد ذلك انتقل أبي الى إنكلترا، حيث دخلت المدرسة فأصبحت اللغة الإنكليزية لغتي الثانية. كانت أمي تريد أن نتعلم لغات عدة منذ الطفولة لذا عيّنت مربية فرنسية تعلمنا منها اللغة الفرنسية. وبعد موت أبي وهو في أوج شبابه قررت أمي الانتقال الى فيينا التي كانت تحبها بشكل إستثنائي. وهناك علمتني اللغة الألمانية بسرعة كبيرة خلال بضعة أسابيع وبطريقة شبه إرهابية. هكذا أصبحت الألمانية لغتي الرابعة».كتب كانيتي سيرته الذاتية الصادرة قبل مدة بالفرنسية، وفي أجزاء السيرة كافة يتعرض لمرحلة من حياته من منظور ثقافي شامل لا يقر بحدود الأشكال الأدبية التقليدية، بل ينتهكها متجاوزاً أصول «السيرة الذاتية» عبر التداخل بين أحداث الواقع المعاش والحدث الذهني والحلم مؤكداً توجهه ضد «التخصص» و{تقسيم العمل».يقول كانيتي: «يمكن أن أصف حياتي كلها كمحاولة يائسة لتجاوز «تقسيم العمل» وإعادة التفكير بكل ما يحيط بي كي تلتقي أجزاؤه في رأس واحد وتتحد هناك. ليس هدفي معرفة كل شيء وإنما تجميع الشظايا». انشغل كانيتي حتى موته بظاهرة الموت الذي اعتبره في أعماله كافة عدواً لدوداً للإنسان. لكنه لم يتمكن من تحقيق مشروعه في كتابة بحث ثقافي وتاريخي وفلسفي حول هذا الموضوع المركزي في خطابه الفكري.يتابع بو طيب: «كتب كانيتي «الإعدام حرقاً» قبل وصوله إلى المنفى في لندن عام 1939 حيث عاش التجارب التي اختطها في هذا العمل وهذا الكتاب رمز قاس وبارد للمرض المعاصر القاتل ورمز للهذيان الذي يشوه حكمة القرن وعقلانيته، بل إن العقل نفسه يصبح هذياناً. «الإعدام حرقاً» أحد الأعمال الجوهرية الكبيرة التي كتبت عن جنون القرن العشرين وجحيمه، وبالتأكيد فإن مؤلفه وقف على حافة هذا الجحيم». أصوات مراكشلم يُترجم لكانيتي إلى العربية إلا بعض النصوص إلى جانب كتابي «أصوات مراكش» ومحاكمة كافكا الأخرى». «أصوات مراكش» مذكرات رحلة كانيتي إلى مدينة مراكش المغربية، وعبارة عن تحقيق ينتمي إلى أدب الرحلة أنجزه الكاتب حين زار مراكش مع فريق تصوير سينمائي. الكتاب أهم الإصدارات عن مراكش بشهادة الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، إذ غاص في حياة المهمشين والمشردين وفضاءات الملاح وسوق العميان في إطار كتابة تمنح موضوعها سيولة تتيح لأجزائه أن تنتقل وتتقاطع وتتوالد وتتآلف. أما «محاكمة كافكا الأخرى» فيمثل كشفاً ورصداً لمرحلة مهمة وحيوية في حياة كافكا. سيرةولد كانيتي في 25 يوليو (تموز) عام 1905 في مدينة روستشوك (Rustschuk)، روسه راهناً (Ruse)، في بلغاريا، وتحدّر من عائلة إسبانية - يهودية. في عام 1911 رحل مع عائلته إلى مانشيستر في بريطانيا. وبعد وفاة والده، رحلت والدته مع أولادها إلى فيينا ثم إلى زيوريخ في سويسرا. في عام 1921 سافر كانيتي بمفرده إلى فرانكفورت الألمانية وحصل على الشهادة الثانوية، وبدأ دراسة الكيمياء في جامعة فيينا. في عام 1929 أتمّ دراسته بنيله درجة الدكتوراه، ثم اشتغل كمترجم. وكتب بعد ذلك أول رواية له بعنوان «الإعدام حرقًا» عام 1935، ثم الأعمال المسرحية «العرس» و{كوميديا الأباطيل».في عام 1954 زار كانيتي مدينة مراكش المغربية، ثم ظهر كتابه «أصوات مراكش» لاحقًا في عام 1968. وانشغل لفترة طويلة بكتابة دراسة أنثربولوجية مطولة بعنوان «الحشد والسلطان» وصدرت في عام 1960. أضحت كتابات كانيتي بعد ذلك معروفة ولقيت إقبالاً من القارئ الأوروبي.حصل كانيتي على جائزة نوبل للآداب في عام 1981، وكتب سيرته الذاتية في ثلاتة أجزاء، صدر الأول منها في عام 1977 والأخير في عام 1985.شذرات«ميكانيكا الفكر أكثر الأشياء التي لا أستطيع تحملها. لهذا أقطع سيرها بعد كل جملة.المؤرخون الملتصقون بالأحداث، ينسون أهم شيء في التاريخ: عملية صنعه.سيكون من الصعب عليه الانفصال عن غوته. لقد اقتصد الشيء الكثير منه، وهو يوزع ذلك دائماً على السنوات المقبلة.لهذا الرجل لغتان، إحداهما ضاربة في التفخيم، يمتدح قلة من علية القوم، يسرقها، ينافقها، ودائماً في لغة سامية، كما لو أن لغته قادمة من السماء، ولا تضم أي كلمة أرضية. في اللغة الثانية يتحدث عن الشخصيات نفسها، لكن كما لو أنها منحطة مثله ولم تنتج سوى أعمال تافهة، ويسخر من الطريقة التي عاملتها بها الحياة، يغرقها ويغسلها في الغيرة والتقزز. لكنه لا يكتب هذا البتة، فهو لا يكتب إلا في اللغة الأخرى، اللغة المداحة.هجرت نفس العالم إلى سجن باذخ لا يعبره هواء فكيف بنفس. آه ابتعد، ابتعد عن كل ما هو مألوف وشخصي وقطعي. تخل عن كل ما هو معروف، وكن جريئاً، فمنذ قرون وأذانك المئة نائمة. كن وحيداً وقل لنفسك كلمات لا تتوجه بها إلى أحد، كلمات مختلفة، جديدة، كما أعطاك إياها نفسُ العالم. خذ الطرق المعروفة واكسرها بركبتيك. وإذا تكلمت إلى بشر فليكونوا من أولئك الذين لن تراهم بعد ذلك. ابحث عن سرَة الأرض، احتقر الزمن، واترك المستقبل يمضي، هذا السراب الخادع. لا تنبس البتة بكلمة سماء. وانس أن هناك نجوماً، ارم بها مثل عكاز. اذهب لوحدك في ترنح. ولا تقص جملاً من ورق. اغطس أو اصمت. أسقط أشجار النفاق: فليست أكثر من وصايا قديمة متنكرة. ولا تستسلم: نفس العالم سيمسك بك ويحملك. لا تطلب شيئاً، ولن يعطى لك شيء. عارياً ستعرف ألام الدودة، لا ألام السيد. واقفز عبر ثغرات الرحمة ألف قدم في الأعماق. فهناك، هناك فقط يهبَ نفس العالم».