الأديب العراقيّ خضير ميري: أعمالي نتاج تجربتي في المصحّات العقليّة ولا أخجل منها

نشر في 09-10-2009 | 00:00
آخر تحديث 09-10-2009 | 00:00
المتابع لكتابات الأديب العراقي خضير ميري يكتشف أنه يؤصل لوناً أدبياً جديداً هو «أدب المجانين»، وعلى رغم أن الثقافة العربية عرفت هذا اللون الأدبي قديماً، إلا أن كتابات القدماء جاءت على استحياء شديد وبعبارات أشبه بالهذيان. أما كتابات ميري فتنبع قوتها من تعايشه مع عالم المجانين لسنوات طويلة وقدرته على سرد تجربته الذاتية بلغة أدبية يتفاعل معها القارئ مباشرة.

احتفى الوسط الثقافي في مصر بديوان ميري الجديد «سارق الحدائق» وهو الجزء الأول من دفاتر المصحة وقدم له الشاعر محمد عفيفي مطر. عن رحلته بين عالمي العقلاء والمجانين وكتاباته ودفاتر المصحة وديوانه الجديد كان الحوار التالي.

أخبرنا عن ديوانك الأخير «سارق الحدائق»؟

إنه جزء من أوراق أو مدونات كتبتها داخل مصحات بغداد حينما كنت أتردد عليها كنزيل من عام 1983 إلى عام 1996، وعايشت خلال هذه المرحلة الطويلة نسبياً حياة المجانين ووقفت على أدق تفاصيل حياتهم الصعبة فتحركت داخلي روح الكتابة.

هل كانت هذه الكتابات بغرض النشر؟

إطلاقاً، فهذه النصوص لم تكن في الواقع معدة للنشر ولم يخطر في بالي ذلك لأنها تشبه إلى حد كبير المدونات أو اليوميات أو المقاطع النصيّة. يبدو بعضها غير مكتمل في شكله الكتابي لأنني كتبته في ما أسميه كتابة اللحظة أو الآنية، وعلى كراسات كانت تتوافر لي بصعوبة بالغة داخل المصحة، وكلما كنت أدخل إحدى المصحات كنت اصطحب معي حقيبة تحوي بعض الكتب المفضلة لدي وكراسات قليلة.

هل يعني ذلك أن طريقة كتابتها لم تكن بالشكل الذي يجعلها صالحة للنشر؟

على العكس، ذلك لا يعني أنها مجرد مدونات أو دفاتر لم تختمر فيها حالة إبداعي، أو أنها كتبت بأسلوب دون المستوى، بل كان لي أسلوبي المميّز في الكتابة.

ما أسباب عدم نشرها طوال هذه السنوات؟

ربما بسبب الظروف السياسية التي كان العراق يمرّ بها، وكنت أنا جزءاً من مصحات هذا البلد آنذاك، وعلى رغم سفري وتنقلي بين عدد من الدول العربية، إلا أنني لم أفكر جدياً في نشر هذه النصوص إلى أن جاءت المبادرة بعرض بعضها على الشاعر محمد عفيفي مطر ومع أنه لا يميل إلى شعر النثر تحمّس لهذه النصوص وطلب نشرها لذلك اقتطعنا جزءاً من دفاتر المصحة، ونشرناه باسم «سارق الحدائق» وشرفني مطر كثيراً بكتابة المقدمة.

بماذا تتميز نصوص «سارق الحدائق» عن كتاباتك السابقة، خصوصاً أن غالبيتها ترصد حياة المجانين والمصحات العقلية؟

أنا في واقع الحال أصدر إبداعي عن عالم معين، فالمتابع لمسيرة كتاباتي يجد أنها تصب في تجربتي الخاصة سواء تجارب الحياة أو تجارب الفوضى المبكرة التي كنت ذهبت إليها، لذلك لو أردنا أن نحصي بعضاً من أعمالي نجده ينصب في أسئلة حول الجنون والعقل والوجود. طبعاً، أنا عشت مع المجانين فترة طويلة وهذا سبب أساسي للعناية والاهتمام بهذا الخطاب بما قد أسميه التعبير أو توظيف هذا العالم الثري الأدبي الذي توزع لدي بين القصة والرواية والسيرة الذاتية وارتباطي بالمصحة العقلية، متهماً ومنبوذاً تارة ومرفوضاً تارة أخرى، فآثرت الكتابة عن العالم الذي أعرفه وعشت فيه كثيراً، فأصدرت عام 1991 رواية «أيام الجنون والعسل» وبعدها «الجن والجنون والجريمة».

هل أجريت تعديلاً على نصوص الدفاتر عند النشر؟

لم أتدخل بها بأي شكل، بل نقلتها من الأوراق بلا تعديل أو تطوير إلى درجة أن بعضها كُتب عليه «نص لم يُكتمل» وبعضها الآخر جاء بلا عنوان.

ما السر في ذلك؟

لأن النصوص ليست عملاً إبداعياً بل مدونات، إضافة إلى أنني لا أريد أن تكون عملاً فنياً مقصوداً. دوّنت الكتابات لنفسي وإن وجدت صدى لدى القارئ أو حفاوة من النقاد فلا بأس بذلك.

ما معنى الجنون من وجهة نظرك؟

الجنون أو المصحات العقلية هي الخلاصة التي نتعرّف من خلالها إلى ما كان يسميه ميشيل بيكو «مقلوب العقل»، بمعنى أن للعقل وجهاً وقفا والأخيرة هي المصحات العقلية التي يجتمع فيها عدد كبير من الشخصيات بمآسيها الخاصة وما يعتريها من تقلبات مزاجية، وأنا عرّفت الجنون بـ{الجنون الحقيقة الوحيدة التي ليست في حاجة إلى آخر، فكل حقيقة في الكون تحتاج عناصر الاتصال المعروفة (مرسل – رسالة – متلقٍّ) كي تتجلى الحقيقة، أما الجنون فهو الحقيقة المطلقة، حيث تتماهى الذات مع نفسها أو يتماهى العقل مع نفسه».

جعلتنا كتاباتك نحب الجنون، فإلى أي مدى يستطيع الكاتب أن يحبب القارئ بأمور غير مستحبة؟

ليس الهدف من كتاباتي أن أجعل الجنون مرغوباً، لأنه لا يصلح لأن يكون خطاباً عقلياً فهو مادة صادقة ومحايدة، ومنتقاة من عدوى العقل.

حاولت في بعض النصوص محاكاة الجنون، لكن بالتأكيد لولا القدرة على أن أصنع شيئاً من الانتباه وشيئاً من الوعي لأصبح الكلام هراء. في النهاية عرضت باقة من حياتي ومشاهداتي ومن يقرأ أي عمل أدبي لي سيجد فيه صدق التعامل مع تجربتي الذاتية من دون خجل أو تنكر لهذا الماضي.

ما رأيك في الأعمال الأدبية الأخرى التي تناولت حياة المجانين؟

أي لغة حتى لو كانت أدبية رفيعة وتقترب من الجنون، لا بد من بعض تزييف صورة الجنون فيها أو الإساءة إليه، وثمة أدباء كثيرون كتبوا عن المصحات العقلية، لكن من دون معايشة فجاءت الصورة نمطية. أما المعايشة الكاملة في المصحات وأن يصير الكاتب جزءاً منها فهذا ما نفتقده. لذلك أجد من كتب عن المجنون في الأدب العربي يصنع صورة غير واقعية عنه من دون إدراك أن له حياته وعاداته وأحلامه الخاصة.

عموماً، عايشت عالم المجانين على مدار الساعة لسنوات، فأدركت أن الجنون ليس بالخطورة التي كنت أتوقعها. كنت أنام في العراء مع المجانين وكنا نقتسم الطعام ونتنازع على السيجارة. إذاً، حياة الجنون والمجانين كانت في حاجة بشكل أو بآخر إلى معايشتها من الداخل وشاءت الأقدار أن أعيش هذه التجربة الطويلة.

يظن من يقرأ الديوان أنك معنيّ بالكتابة عن عالم المجانين فحسب؟

من قال ذلك؟ كتبت الألوان الأدبية كافة، لحرصي على تطوير أدوات خطابي، لكن في الحقيقة يظل هاجس الكتابة عن الحياة التي عشتها والخروج بخطاب إبداعي عن هذه التجربة ينمو ويشتد داخلي لأنني أميل شخصياً إلى ضرورة أن يختص الكاتب بعالم يكون خبره جيداً أو تعرف إليه وعايشه لتشكيل مادته الأدبية. مثلاً غالبية أعمال غابرييل غارسيا ماركيز عن أميركا اللاتينية، وأعمال البير كامي عن الجزائر، أما نجيب محفوظ فكتب عن الحارة الشعبية والبسطاء، فيما صوّر الطيب صالح أحوال السودان.

ماذا عن مشاريعك المقبلة؟

تصدر هذه الأيام رواية بعنوان «الذبابة على الوردة» وتحكي جزءاً من سيرتي الذاتية، إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان «كيس أسود للإسبان»، وانتهيت من كتابة عمل نثري طويل بعنوان «تعدل ديل الكلب» يحكي تجربتي في القاهرة. كذلك أستعد لإصدار أول كتاب عن الموسيقار العراقي نصير شمة بعنوان «أحلام عازف الخشب... رحلة جمالية مع نصير شمة».

back to top