احتقان

نشر في 05-06-2009
آخر تحديث 05-06-2009 | 00:00
 محمد سليمان في مارس الماضي عقدت الدورة الثانية لمهرجان القاهرة للشعر العربي، وكان من بين المشاركين في نشاطاتها الشاعر الكردستاني «شيركو بيكه س» الذي ألقى عدداً من قصائده باللغتين العربية والكردية، وبعد انتهاء أعمال المهرجان احتفى به «أتيليه القاهرة للفنانين والأدباء» ودعاه لإحياء أمسية شعرية.

وحدث أن مُقدم الأمسية تحدث عن الشاعر وعن العرق الواحد الموحد، كما يحلم به المصريون ويرونه، ولم يسهب في الحديث عن كردستان، فقام الشاعر قبل إلقاء قصائده بمراجعة المقدم، وتسليط الضوء على كرديته، وبوسعنا أن نفهم ونقبل اعتداد الشاعر بكردستان، فالشعر لغة واللغة وطن وهوية. وقصائد «شيركو بيكه س» مسكونة بتجربته الحياتية، وفي مركزها المكان بطبيعته وخصوصيته وثقافته المميزة، وبوسعنا أيضاً أن نفهم دوافع مقدم الأمسية وأحلامه خاصة، وحُمى التفتيت الطائفي والعرقي تجتاح شوارعنا ويؤججها البعض في الصحف والفضائيات وأجهزة الإعلام الأخرى عندما يتجاهلون المشترك والعام وثوابت المواطنة ويقسمون مواطنيهم إلى سني وشيعي وقبطي ودرزي وماروني ونوبي... معبئين الشوارع بالاحتقان وداعين الناس إلى الالتفاف حول هويات ورايات صغيرة ومختزلة.

وقد انعكس هذا الاحتقان على أحداث حياتنا اليومية وعلى الحياة الثقافية والإبداعية في الفترة الأخيرة، فحاصر التأويل الطائفي رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، واتهم الدولة بمحاربة الأقباط وقمعهم بسبب صدور قرار التخلص من الخنازير ثم كان «المُعلم يعقوب» بدوره الملتبس بطلاً للتطاحن الأخير بعد صدور كتاب «المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة» للدكتور أحمد حسين الصاوي عن هيئة قصور الثقافة، سلسلة ذاكرة الوطن.

فقد أثار الكتاب استياء الكنيسة الأرثوذكسية والعديد من المفكرين الأقباط لاتهامه المعلم يعقوب بتكوين جيش قبطي أثناء فترة الحملة الفرنسية على مصر لمساعدة المحتل الفرنسي، وأكدت الكنيسة أن المعلم يعقوب كان شخصية وطنية ناضل من أجل تحرير مصر من المحتلين الفرنسي والعثماني، وطالبت بمصادرة الكتاب «لما يمثله من تحريض وتعصب».

ونسي الجميع بسبب الاحتقان أن الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت قبل أكثر من عشرين سنة، وأن مؤلفه الراحل قال في مقدمة الكتاب «إن اختلاف الرأي التاريخي حول شخصية عامة هو من الأمور التي ألِفناها، وواجب المؤرخ الصادق بعد أن يلمس مدى تفرق السبل بمن سبقه من المؤرخين وتفاوت أحكامهم بين الأبيض الناصع والأسود القاتم أن يكون حكماً عدلاً، فيبحث ويناقش ويحلل ويستنتج، وسوف أحاول في هذه الدراسة مناقشة كل ما كتب عن الجنرال يعقوب، وما أمكن العثور عليه من وثائق تتعلق بحياته، فهو قبل كل شيء مواطن مصري برز على مسرح الأحداث خلال فترة بالغة الأهمية في تاريخ مصر الحديث». كما نسي الجميع أن معظم زعمائنا يتحركون في كتابات المؤرخين، وأحياناً في الذاكرة الشعبية من دوائر التكريم والإشادة إلى دوائر التجريم، ونسوا كتباً أخرى جعلت من المُعلم أو الجنرال يعقوب بطلاً ورمزاً للتنوير والتحرر منها كتاب «هذا هو المعلم يعقوب 1745- 1801» تأليف د. أنور لوقا الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة عام 2002 وجاء في مقدمته «من الملاحظ أن من كتبوا قبل ثورة يوليو 1952 يُجمعون مسلمون ومسيحيون على تمجيد يعقوب ورفعه إلى مرتبة البطل الوطني، واعتباره رائد دعوة الاستقلال وفي مقدمة هؤلاء د.شفيق غربال والأستاذ محمد فهمي عبداللطيف، وعلى نقيض هذا جاءت كتابات الستينيات التي أصر كتابها على إدانة يعقوب واتهام د.لويس عوض بالفرعونية والطائفية، ويرجع سبب هذا التناقض في رأيى إلى أن شفيق غربال وعبداللطيف وغيرهما كانوا يعيشون في مناخ الديمقراطية الليبرالية في الثلاثينيات والأربعينيات، وكان لديهم الدافع والحرية لرؤية الواقع التاريخي لمصر العثمانية على حقيقته دون تحيز أو تزييف، أما كتّاب الستينيات وما بعدها فقد تأثروا بصورة الوحدة الوطنية والوحدة القومية كما جسدتها مصر في عهد عبدالناصر».

ثم انتقد المؤلف كتاب زميل دراسته د. الصاوي قائلاً: «كتاب المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة، رغم عنوانه الطموح وتلويحه بوجود الحقيقة في بطن المؤلف، كتاب سهل المأخذ طلي العبارة يجذب القارئ بأسلوبه القصصي السلس، ويبدهك منذ البداية بوعد ثمين هو التزام الموضوعية مع أنه يسوق خطاباً ينافي الموضوعية».

السجال حول صورة ودور المعلم أو الجنرال يعقوب قديم، وقد كان الجبرتي أول المشاركين فيه والسجال الدائر اليوم هو ابن الاحتقان الطائفي الذي يهدد المبدعين والمفكرين والناشرين، ويقلص هوامش الحرية وثوابت المواطنة.

* كاتب وشاعر مصري

back to top