الإمارات والمعركة من أجل إيرينا

نشر في 23-06-2009
آخر تحديث 23-06-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله تخوض الإمارات حاليا معركة دبلوماسية كبرى وربما كانت على وشك أن تحقق نصرا دبلوماسيا أكبر لن يقتصر عائده على الإمارات وحدها، بل سيكون نصرا دبلوماسيا غير مسبوقا لأكثر من 140 دولة من الدول النامية الجنوبية، التي تعاني سيطرة دول الشمال على مؤسسات النظام العالمي.

لم تهدأ الدبلوماسية الإماراتية لحظة واحدة منذ بداية عام 2009 بل إنها جابت الكرة الأرضية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وكانت غرفة العمليات في أبوظبي يقظة ليلا ونهارا دون كلل وملل ودون راحة مستحقة. وذهبت الوفود الرسمية إلى أكبر الدول وأصغرها، وقامت بزيارة نحو 90 عاصمة مهمة وأقل أهمية، وعقدت لقاءات موسعة وأخرى سريعة مع المسوؤلين في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا وأستراليا. لقد أخذت الإمارات على عاتقها أن تنافس أقوى الدول وأكبر الاقتصادات، وكانت في كل جولاتها الدبلوماسية المكوكية تحمل طلبا واحدا وملفا وحيدا هو ملف «إيرينا».

«إيرينا» هو الاسم المختصر للوكالة الدولية للطاقة المتجددة التي تأسست في 26 يناير 2009 بحضور 75 دولة إلا أن عدد الدول الأعضاء ارتفع سريعا إلى نحو 110 دول، ويأتي تأسيس «إيرينا» لمواكبة الاهتمام العالمي المتنامي بالطاقة المتجددة كبديل للطاقة الأحفورية الضارة بالبيئة والمسؤولة عن الأزمات البيئية العالمية المعاصرة كالاحتباس الحراري وبروز ثقب الأوزون وتلوث الماء والهواء والغذاء.

لقد أصبحت البيئة ملوثة والكرة الأرضية مجهدة والموارد الطبيعية مستنزفة أكثر من أي وقت آخر. ويعتقد العلماء أن الحياة الفريدة وربما الوحيدة من نوعها في الكون مهددة ولن تستمر طويلا بعد أن فقدت درعها الواقي ورئتها الخضراء وارتفعت حرارتها إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ. كل ذلك بسبب إفراط الإنسان في استنزاف الطبيعة واعتماده الكلي على الطاقة الأحفورية (الفحم والنفط والغاز) الضارة بالبيئة.

«إيرينا» هي الوكالة المعنية بالمستقبل وهدفها تحقيق التحول التدريجي نحو استخدام مصادر الطاقة المستديمة والرحيمة بالبيئة، والإمارات التي تعد من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للنفط تود أن تكون في قلب هذا التوجه المستقبلي وترغب في الحصول على استضافة المقر الرئيسي والدائم لـ«إيرينا»، وكم هو طموح مشروع، وشرف ما بعده شرف لدولة نامية وصغيرة وحديثة الاستقلال كالإمارات أن تخطط للمستقبل ويكون طموحها ضخما بضخامة التحديات البيئة العالمية.

برزت فكرة «إيرينا» من قبل المجلس العالمي للطاقة المتجددة والمجلس الأوروبي للطاقة الشمسية، وعقدت ثلاثة اجتماعات تمهيدية خلال عام 2008 وأول اجتماع تأسيسي خلال عام 2009، لكن الإمارات تحمست كثيرا لفكرة هذه الوكالة الدولية المستقبلية التي تأتي متزامنة مع إقامة مدينة مصدر في أبوظبي كأول مدينة في العالم تكون خالية من الانبعاث الغازي والنفايات بكل أنواعها، وتعمل وفق مجموعة متكاملة من مصادر الطاقة البديلة كالطاقة الشمسية والهيدروجينية والطاقة المتولدة من الرياح التي لا تضر بالبيئة. وجود مدينة بهذه المواصفات هو حلم بشري ومستقبلي نبيل، كما أن وجود وكالة عالمية قائمة على فكرة الطاقة المتجددة هو طموح إنساني وعلمي أكثر نبلا.

هدف الإمارات الذي يستحق دعم المجتمع العالمي والعلمي هو وضع مدينة مصدر ووكالة «إيرينا» جنبا إلى جنب، لذلك تقدمت الإمارات بطلب رسمي في 24 مايو 2009 لاستضافة المقر الدائم والرسمي لإيرنيا في أبوظبي.

لم تكن الإمارات الدولة الوحيدة الراغبة في استضافة المقر الرئيسي لـ«إيرينا». فقد تقدمت بنفس الطلب دول أوروبية عريقة كألمانيا وفرنسا والنمسا التي تملك خبرات واسعة في العمل الدبلوماسي والمؤسسي والعلمي. لكن ذلك لم يثنِ الإمارات إطلاقا من خوض المعركة الدبلوماسية بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن الدول العربية والإسلامية والنامية.

المنافسة كبيرة والمعركة صعبة، لكن النتيجة حتى الآن مدهشة من حيث الدعم والتفهم والتعاطف ليس من الدول النامية فحسب، بل من عدة دول أوروبية وغربية رئيسة. لقد اكتشفت هذه الدول أن الإمارات جادة وجاهزة وجديرة، لذلك أصبحت من أكثر الدول المؤيدة والمتحمسة لطلبها استضافة مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة.

لقد قررت الإمارات بجرأة ما بعدها جرأة دخول المنافسة وخوض معركة دبلوماسية بهدف كسر احتكار الدول الكبرى لاستضافة المؤسسات الدولية، دولة الإمارات هي واحدة من أصغر الدول النامية لكنها تخوض حاليا معركة بالنيابة عن 22 دولة عربية و54 دولة إسلامية وحوالي 140 دولة من الدول النامية في الجنوب التي لا تستضيف مقر أي مؤسسة دولية كبرى.

لذلك فإن معركة الإمارات هي معركة مبدأ بقدر ما هي معركة مقر، فالوقت حان من أجل كسر احتكار دول الشمال وإعادة توزيع مظاهر القوة في نظام عالمي أكثر عدلا وإنصافا للدول النامية. لم تشعر الإمارات برهبة المنافسة بل حملت الراية واندفعت بحماس وتمكنت من إقناع أكثر من 60 من أجل تأييد طلب الإمارات، لكن التصويت النهائي سيتم في الاجتماع المقرر في 28 يونيو الحالي في منتجع شرم الشيخ بمصر الذي سيصوت على المقر وجنسية المدير العام الذي يتوقع أن يكون من أوروبا. أمام الإمارات أسبوع آخر من أجل تحقيق هدف دبلوماسي ضخم عملت من أجله بهدوء وتصميم وإصرار وثقة على مدى أكثر من ستة أشهر.

سيشكل نجاح الإمارات المتوقع اختراقا غير مسبوق للمسلمات والمؤسسات الدولية، لكن الدرس المستفاد هو أن القوة الناعمة أهم بكثير من القوة العسكرية المتصلبة، وأن بإمكان الدول الصغيرة القيام بأدوار كبيرة، وأن الأفق في عصر العولمة عالمي وليس محليا، أما النجاح فسيأتي من خلال العمل والجهد والتركيز والاعتماد على الكفاءات المواطنة الخلاقة. هذه هي الوقود للوصول إلى العالمية. كذلك اكتشفت الإمارات أن الصداقة والمصداقية والسمعة علاوة على الحياد السياسي والموقع الجغرافي رصيد مهم في العلاقات الدولية والمعركة الدبلوماسية.

بعد الانتهاء من هذه المعركة الدبلوماسية، من المهم وضع هذه التجربة والخبرة من أجل التعامل بنجاح مع ملفات أخرى قديمة وجديدة مازالت عالقة كملف المصرف المركزي الخليجي، والأهم من ذلك ملف الجزر المحتلة الذي يستحق قدرا أكبر من الحراك الدبلوماسي على الصعيدين الإقليمي والعالمي في مرحلة ما بعد معركة «إيرينا».

* باحث وأكاديمي إماراتي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top