حديقة الانسان 
صحافة الخبازين

نشر في 19-03-2010
آخر تحديث 19-03-2010 | 00:01
 أحمد مطر في الدقائق الأولى من الفرصة الكبيرة، هطل عليَّ صلاح ممتزجاً بسيل مجموعتنا العذبة في الصف الأوّل المتوسط جيم، مطلقاً صيحة مجلجلة بدا أن ضيق الوقت لم يمهلها لتحدّد جنسها، فخرجت لفرط انبهاره عفيّةْ وشاحبة في الوقت ذاته، حائرة بين أن تكون ابنة الفرح الشرعية أو ابنة الفزع المتبناة.

لفت انتباهي أنه كان يدفع أمامه بحماسة ولداً لا أعرفه، بدا لضخامة جثمانه كأنه أخونا الأكبر، على رغم كونه في مثل سننا أو ربما أصغر منا بأشهر.

كرر صلاح صيحته: انتهى الأمر... وجدنا من يطبع لنا المجلتين.

صعقني الخبر، وتجمدت في مكاني غير مصدّق، على رغم حاجتي الكبرى إلى إعلان فرحتي بكل ما أملك من وسائل.

كان الآخرون وقوفاً في حلقة من حولي، وكان صلاح وذلك الولد مثل نتوءين في واسطة الحلقة.

دفعه نحوي بامتداد ذراعه: أعرّفك على «لؤي» من الشعبة باء... أخوه لديه مطبعة، وقد وافق على أن يطبع مجلتينا.

مددت له يدي كما يمدّ شحّاذ كفّه إلى أن أعطيه، وصافحته بحرارة لم يعرف النفاق لها طعماً، على رغم أنّي، في اللحظة ذاتها، كنت أركل ذهني، بكلّ قسوة، كي أرغمه على المصالحة بين هذا الولد الرّاسخ كالبغل وبين اسمه اللّدن مثل رضيع متعثّر بقماطه.

سألته بلهفة: أخوك لديه مطبعة؟

هزّ رأسه علامة الإيجاب، ثمّ انتزع نفسه بصعوبة من شرنقة بلادته المحكمة، ليقول: سألته عن طبع مجلّة صلاح ومجلّتك، فقال: لا مانع.

استحال لساني، لفرط التأثّر، ممحاة تُنضّد الكلمات لتبلعها قبل وصولها إلى شفتي، فلم أملك إلا أن أهجم على لؤي معانقاً، لكنني انزلقت من على صخرته بسرعة، لأسأل: متى يمكننا أن نراه؟ وأين؟

قال: غداً، في محلّه في العشّار... سأجيء معكما.

لم أنم تلك الليلة، كان الفرح وحده شاغلاً من شأنه أن يمنح النوم إجازة يستحقها كي ينام لحسابه الخاص، لكن شاغلاً آخر حلّ مكانه قد بدا، لشدّة يقظته ونزقه، مثيراً لغيرة الأرق نفسه وغيظه... وكنت أغلّفه بتساؤل يشبه الأمل كي أسيغه: إننا، طيلة أشهر، لم نستطع أن نوفر أكثر من نصف دينار، فهل سيتساهل أخو لؤي معنا إكراماً للصحبة؟

ومثل رجل ناضج قد وصل إلى الفروع القصوى من شجرة تجاربه، وانتهى إلى ملء سلّته بقطاف الأحلام، رحت أستذكر بدء علاقتي بصلاح.

كنت، منذ بداية العام، منهمكاً، بحماسة شديدة، في صنع مجلّة بكبس مجموعة من ورق الدفتر المدرسي المخطط داخل غلاف من ورق أبيض مقوّى، منصرفاً قبل كل شيء إلى خطّ العنوان بدقّة، ورسم الغلاف بالألوان بمنتهى الصبر، ثمّ العودة بعد ذلك إلى تعبئة الصفحات بما هبّ ودبّ من كتاباتي واستعاراتي.

في تلك الأيّام علمت أن صلاح كان منهمكاً مثلي بإنجاز مجلّته الخاصة... فأقبلت عليه مدفوعاً بالإلفة التي تجمع أصحاب الصنعة الواحدة.

قدمت له مجلّتي، فأطال النظر إلى الغلاف منبهراً، وأبعدها عن عينيه كمظهر من مظاهر الاحتفاء، وهتف: «الآراء»... حلوة.

ثمّ راح يقلّب الصفحات بلطف، ويهزّ رأسه مبتسماً، دلالة على الإعجاب، ثم أطبقها وعاد إلى تأمّل الغلاف باستغراق، ولم يلبث أن قال: هذي أحسن من مجلتي ألف مرة.

وبسرعة أعدت إليه طبق مجاملته ممتلئاً حتى الحافة بمجاملة أكبر، لكنها بدت أسخف من نفسها لسبب واضح هو أنني لم أرَ مجلته بعد: لا يمكن.. أنا أعتقد أن مجلتك أحسن من مجلتي مليون مرّة... سألته: ما اسم مجلتك؟

قال، وهو يطأطئ رأسه خجلاً وتواضعاً: «قرعوية».

أذهلني الإسم الغريب، فقطّبت حاجبيّ وسألته: قرعوية؟ ما معنى قرعوية؟!

ردّ وكأنه يدفع خجله بمكنسة ابتسامته العريضة: لا أدري... سمعته في تمثيلية من إذاعة لندن، وقررت أن أجعله اسماً لمجلتي.

وعندما أطلعني لاحقاً، على «قرعوية» وجدت أنها لا تختلف عن مجلتي إلا باسمها الأقرع... فكلتاهما ناقة محملة بأكوام قشّ مواضيع الإنشاء والنوادر والحكم والأمثال والمعلومات السمجة المكرّرة تحت عنوان «هل تعلم؟».

كانت مجلّتانا، في وعيي الآن، مثالين مبكّرين للأنظمة العربية: أسماء مختلفة لفراغ واحد، يقيم فوقه صخب لطخات الألوان ويقبع تحته غموض المواضيع التي لا رابط لها ولا هوية، وصمت التواقيع الوهمية التي يؤلّفها وينوب عنها شخص فقط.

بعد ظهيرة اليوم التالي، خرجنا مع مجموعتنا من المدرسة في البصرة القديمة، وسعينا على أقدامنا إلى العشّار، قاطعين مسافة تزيد عن سبعة أميال، تحت حرّ الهجيرة اللافح. لم نكن لنفرّط بفلس مما ادّخرناه بركوب واسطة نقل، بل بلغ الحرص بنا حدّ التظاهر بالصمم عندما أعول بغلنا الحارس لؤي مستجيراً من العطش.

وبعد مسيرة أحسسنا في نهايتها بأننا صرنا، لفرط الإجهاد، نمشي على سيقاننا لا على أقدامنا، كسر لؤي جفاف حلقه بسعلة قوية، وهتف: هذا هو المحلّ.

تساءلنا والعرق المتصبّب من جباهنا ينهمر فوق جفوننا متضامناً بلؤم مع غشاوة أعيننا: أين؟!

قال لؤي وهو يشير بإصبعه: هذا.

وتعلّقت أنظارنا بطرف إصبعه لتنتهي بمعيّته إلى باب، هو في الواقع ثقب مستطيل يحاول أن يُظهر نفسه للوجود دون رغبة أو رضا الحائط.

صُدمنا لكنّنا تحاملنا ومشينا وراءه كجنازات تحمل نفسها.

أطلّ من عدمه الثقب وجه مبتسم صفعنا بسوط نبرة أخشن من بسطار شرطي: أهلاً وسهلاً.

ولبرهة راح لؤي يوشوش في أذن أخيه الذي أسبل جفنيه وهو يهزّ رأسه موافقاً ثم أذّن بنا: تعالوا.

أعطيته المجلتين فقلّبهما بسرعة، ثمّ نصب وجهه على حافة الثقب قائلاً: سأطبعهما.

سألته: كم سيتكلّف الطبع؟

قال بطيبة متناهية: ليست مشكلة... كم عندكم؟

قلت له باعتداد لا يخلو من التوجّس: نصف دينار.

عاد يقول بالنبرة الحانية ذاتها: لا مانع.

خنقتني الفرحة، ووجدت أنّ الوقت قد حان لتسليك حنجرتي والبدء بمناقشة التفاصيل. قلت له: الغلاف بالألوان طبعاً...

نظر اليّ ملياً، ثم ابتسم وطوّح كفّه متسائلاً: أيّ غلاف، وأيّ ألوان؟ مستحيل. أنا أطبع لكم الأوراق... وأنتم اصنعوا أغلفتكم.

كانت كلماته مثل أسنان حادّة تقتطع قضمة هائلة من لحم فرحتي.

همس صلاح من خلفي: ليس مهماً... المهم أن تكون المواضيع مطبوعة.

قلت على مضض: لا بأس... كم نسخة ستطبع لنا؟

ردّ بسرعة واستغراب: نسخة طبعاً.

في تلك اللحظة شعرت بأنّه قد تخلّى عن تلك الأسنان، واستعاض عنها بدبّابة لم تكتف بهرس لحم فرحتي، بل طحنت عظامها معها من دون رحمة. ووجدتني أصرخ فيه بلا حياء: ما حاجتنا إليك إذاً؟ نحن، من الأصل، نملك نسخة.

قال ببرود: لكنكم تريدونها مطبوعة.

سألته بحنق: وأيّ مطبعة هذه التي لا تطبع إلا نسخة؟!

جبهني بالبرود نفسه مشيراً إلى يساره: هذي.

دفعت رأسي داخل الثقب، ونظرت إلى حيث أشار، فوقعت عيني على «آلة كاتبة» تبدو لقدمها كعجوز دميمة مقرفصة في معترك مناياها، وهي تدرّع جسدها المتهالك بتمائم الصدأ!

استعدت رأسي، لكنني لم أستطع استعادة أعصابي المنفلتة، واستدرت لألقي على وجوه أصحابي نظرة انكسار وخيبة، ثمّ استجمعت نفسي والتفت إليه قائلا: نحتاج إلى وقت للتفكير.

قال بلطف: فكّروا... ومتى قدرتم أعطوا المجلات للؤي. أنا بالخدمة.

وعدنا نجرّ أرجلنا التي زاد من ثقلها انحسار وقود الأمل الذي كان يخادع إجهادها في طرق الذهاب.

وما إن غاب الثقب عن أنظارنا حتى توقفت واستوقفت الآخرين، ثم التفت نحو لؤي ونخرته في صدره بإصبعي، وسألته بلهيب صوتي وشرر نظرتي معاً: ماذا يشتغل اخوك؟

ردّ ببراءة انهكها التعب والحياء: كاتب عرائض.

هزّ صلاح يده متأسفاً، وتطلع إليّ كالمعتذر، فيما تساءل لؤي بصوت مكسور: والآن... ماذا ستفعلون؟

أجبته بلا ترددّ: الآن لم يبق لنا إلا أن نخبز.

والتقط صلاح معنى كلامي، فكرّر من بعدي: نعم... الآن نخبز.

وقبل أن يترجم لؤي تساؤله إلى كلمات، كانت الإجابة قد رنّت على رقبته بهيئة صفعة قويّة، من كفّي، وعندما تحامى من أختها كان صلاح قد وهبه واحدة خافتة على جانب رقبته الآخر.

عندئذٍ جذب رأسه الى الوراء كوتر القوس المشدود، ثمّ أطلقه كالقذيفة نحو رأسي.

كدت أقع لقوّة الضربة ومفاجأتها. نظرت إليه بعينين نصف مغمضتين وأنا أترنّح، وصرخت بفزع: ماذا تفعل؟!

كان قد مشق قامته، ووقف كجبل، باسطاً ذراعيه أمامه، وشادّاً قبضته، فيما كانت سحنته مفعمة برواء ثأره لرقبته.

ردّ عليّ صارخاً، لكن صرخته المنتحلة، لم تستطع أن تصرع طيبته الأصيلة، فبدت أقرب إلى الاعتذار منها إلى التحدّي: أنا أيضاً أخبز.

back to top