إسماعيل يس... حكاية رجل حزين (23) الدنيا لما تضحك
جاءت ثورة 23 يوليو وجاء معها الخير الوفير للشعب العربي كله، مصر تحديداً واسماعيل ياسين خصوصاً، لدرجة أنه من كثرة الأعمال التي كانت تعرض عليه، كان يرفض نصفها تقريباً، ليس تمنعاً ولكن لضيق الوقت، حتى أنه لم يكن ينام في تلك الفترة أكثر من ثلاث ساعات يومياً، ليستطيع الإيفاء بالتزامات العقود التي يبرمها، وكان من نتيجة ذلك أنه قدّم في العام التالي للثورة 17 فيلماً.وفر القدر لاسماعيل النجاح تلو الآخر فازدادت نجوميته في عام 1954 لتستقرّ في القمة بعدما قدّم 18 فيلماً جديداً، جميعها بطولات مطلقة، ولم تخلُ واجهة دار عرض في القاهرة أو الإسكندرية من «أفيش» لفيلم يحمل اسم «اسماعيل يس».
من هنا جاء التفكير في فكرة الظاهرة (إسماعيل ياسين في...) عام 1954، عندما أطلق المخرج يوسف معلوف على فيلمه اسم «مغامرات إسماعيل يس» على الرغم من أن البطولة لم تكن لاسماعيل ياسين إنما لكمال الشناوي، أحد فتيان السينما الجدد آنذاك وكان يطلق عليه «فتى الشاشة الأول» ويقدم بطولات مطلقة، شاركتهما دلوعة السينما المصرية شادية.أطلق معلوف على الفيلم اسم «مغامرات اسماعيل ياسين» استغلالاً لظاهرة هذا الفنان «الفلتة»، ولم يكن لدى كمال الشناوي غضاضة في أن يتصدر اسم اسماعيل «الأفيش».لاقى الفيلم صدى كبيراً لدى الجمهور وحقق نجاحاً غير عادي ولفت أنظار المنتجين والمخرجين، وفي العام نفسه قدمه المخرج حسن الصيفي في فيلم «عفريتة اسماعيل يس» أمام الراقصة اليونانية كيتي وفريد شوقي وزينات صدقي، وتوالت بعد ذلك سلسلة أفلام «إسماعيل يس في...» فكان الممثل الأول، في تاريخ السينما العربية، الذي يقدم سلسلة أفلام تحمل اسمه الحقيقي وليس اسم البطل، وإن كانت المطربة ليلى مراد سبقته بوضع اسمها على الأفلام، غير أنها لم تصل إلى العدد الذي وصل إليه ـ أكثر من 17 فيلماً يحمل اسمه ـ فضلاً عن الأفلام التي أعيد عرضها، وتصدّر اسمه الأفيش قبل اسم الفيلم، مثل فيلم «بيت الأشباح» الذي أنتج عام 1951 وأعيد عرضه بعدما أضيف اسم اسماعيل على العنوان ليصبح «اسماعيل ياسين في بيت الأشباح»، إضافة إلى تقديمه لما يسمى بأفلام الكوميديا المرعبة مثل «اسماعيل يس في متحف الشمع» و{اسماعيل يس يقابل ريا وسكينة».في الجيشفي عام 1955 وفي فورة الحماسة للثورة، شعر اسماعيل ياسين بوجوب المشاركة في تعزيز الإنجازات التي حققتها الثورة، معتبراً أنها قامت من أجله كمواطن مصري وتحديداً من أجل البسطاء أولاد الفقراء مثله الذين لا سند لهم ولا ثروة لديهم بل يعيشون بالكاد، خصوصاً أن البلاد كانت بأمسّ الحاجة إلى العمل والتكاتف للنهوض بها، ففكّر في تقديم فيلم عن الجيش تقديراً للدور الذي اضطلع به في تغيير وجه الحياة المصرية، وبحث عن كاتب ومخرج على دراية بالحياة العسكرية، لذا اختار الكاتب عبد المنعم السباعي وصديقه المخرج فطين عبد الوهاب، وهما من ضباط الجيش المصري، وإن كان عبد المنعم استمر في الجيش بعدما أسندت إليه مهمة الإشراف على الإذاعة المصرية من خلال مكتب الشكاوى ورقي إلى رتبة أركان حرب الإذاعة، في حين طلب فطين التسريح من الجيش، شأنه شأن الذين تعلّقوا بالفن ووجدوا فيه أنفسهم، مثل ضابط سلاح الفرسان أحمد مظهر، الذي قدّم في عام 1955 دور «البرنس علاء» في فيلم «رد قلبي». كتب عبد المنعم السباعي قصة وسيناريو وحوار فيلم «اسماعيل يس في الجيش» وأخرجه فطين عبد الوهاب، ووجه اسماعيل ياسين الدعوة إلى قائد ثورة يوليو الزعيم جمال عبد الناصر، الذي لبى وحضر العرض الأول للفيلم ورافقه أعضاء مجلس قيادة الثورة. ضحك ناصر كما لم يضحك سابقاً، غير أنه أستشعر رسالة الفيلم والأهداف التي يرمي إليها اسماعيل ياسين.أغرى نجاح الفيلم اسماعيل ياسين بتكرار التجربة كذلك المنتجين والمخرجين، وظهرت تباعاً سلسلة أفلام «إسماعيل ياسين في...» وشملت أسلحة الجيش في معظمها: الطيران، البوليس، الأسطول، البوليس الحربي، مستعيناً في ذلك بتوأمه الفني أبو السعود الأبياري، ليكوّن معه ثنائياً فنياً على طريقة نجيب الريحاني وبديع خيري، وجاء الضلع الثالث في المثلث فطين عبد الوهاب ليعزفوا معاً أجمل ألحان «سينما الكوميديا المصرية».حرص اسماعيل ياسين على أن يفي بوعده للصديق القديم الفنان القاسي الملامح رياض القصبجي الذي كان القاسم المشترك في غالبية أفلام اسماعيل ياسين وقلما خلا فيلم من وجوده، خصوصاً سلسلة الأفلام التي قدمها اسماعيل عن أسلحة الجيش المصري، لدرجة أن الجمهور نسي الاسم الأصلي للفنان رياض القصبجي وتذكّر «الشاويش عطية» اسمه في سلسلة الأفلام هذه، وقد ثبت اسماعيل اسمه في كل الأفلام مثله وكان اللقاء بينهما مثل «القط والفار»!أثناء تصوير فيلم «اسماعيل ياسين بوليس حربي» كان دوره يفرض عليه أن يكون له ابن، إذ يتمحور الفيلم حول فكرة مرض اسماعيل ودخوله المستشفى فيظن «الشاويش عطية» أن مرضه جعله يرتد إلى طفولته عندما شاهد ابنه شديد الشبه به، وهنا أصرّ المخرج على أن تتم الاستعانة بالفعل باسماعيل الصغير أو نجله «ياسين».رفض اسماعيل أن يقف ابنه أمام الكاميرا، فلم يكن عمره يزيد على ست سنوات آنذاك، وكان اسماعيل يحبه حباً مرعباً ويخشى عليه من نسمة الهواء، لكن مع إصرار المخرج خصوصاً أن من الضروري أن يشبه الطفل البطل، فوافق اسماعيل. ما إن وصل الطفل ياسين إلى البلاتوه لتصوير دوره علا صراخه فجأة وركض إلى والده واختبأ وراءه:- إيه... إيه فيه إيه يا ياسين؟!- خبيني يا بابي... خبيني.- ليه خايف من إيه؟ متخافش... متخافش.- إلحق يا بابي «الشاويش عطية» جاي... أهرب يا بابي.هنا ضج اسماعيل ياسين بالضحك لدرجة أنه وقع على الأرض وعرف أنه نجح والفنان القدير رياض القصبجي إلى أقصى درجة وأن الرسالة وصلت حتى إلى لأطفال، غير أنه أراد إزالة رهبة ياسين ليستطيع تقبل القصبجي لأنه سيعمل معه في المشهد التالي من الفيلم:- تعالى يا ياسين متخافش، تعالى ده عمك رياض، الراجل اللي قلبه زي الفل، ده بقى يا سيدي أطيب واحد في الدنيا.- ده بيضربك ويجري وراك علشان يدخلك السجن.- ده تمثيل يا حبيبي... زي دلوقت كده... مش انت جاي هنا دلوقت علشان تمثل... أهو ده تمثيل... مش حقيقي.علم القصبجي بما حدث وشاهد خوف ياسين، فاقترب وراح يقبل إسماعيل أمام ياسين ويأخذه في أحضانه، ما أدهش الطفل ياسين:- هو بيبوسك يا بابي.أخذ القصبجي ياسين في أحضانه وراح يقبله.- وهبوسك إنت كمان يا سي ياسين... إنت خايف مني... تعالى تعالى ده إحنا هنبقى أصحاب.تحرك الإحساس الطفولي داخل القصبجي واستقبله رادار الطفل داخل ياسين وأصبح منذ ذلك الوقت من أحب الناس إلى قلب ياسين، كما كان الأحب إلى قلب اسماعيل.واجب وطنيعلى غرار الدور الذي اضطلعت به أغاني المطرب الصاعد بسرعة الصاروخ عبد الحليم حافظ، الوحيد الذي لم يمثل أمام اسماعيل ياسين ربما خوفاً من نجوميته، في توضيح أهداف الثورة والتقريب بينها وبين الشعب، كانت أفلام اسماعيل ياسين تسعى إلى الهدف ذاته، بخلاف بقية الأفلام التي ظهرت في الفترة نفسها، وحاولت تناول الثورة وأهدافها ومبادئها.على الرغم من طابعها الكوميدي، إلا أن الهدف الوطني كان واضحاً تماماً في أفلام اسماعيل ياسين وهو إذكاء الرغبة لدى الشباب المصري في الالتحاق بالجيش وأسلحته المختلفة، وإشاعة روح الانتماء وإحداث نوع من الالتحام بين الجيش والشعب. كانت هذه النوعية قريبة الشبه بنوعية «أفلام الحرب» التي قدمتها السينما العالمية لحث الشباب على التطوع في أسلحة الجيش المختلفة، والتي ظهرت أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها. أفسحت الدولة في المجال لتوظيف شعبية النجم الكبير اسماعيل ياسين في إيصال أهداف ومضامين سياسية إلى الشعب، هكذا أصبح اسماعيل أحد أهم نجوم عصره وأغزرهم عطاءً وأغلاهم أجراً، لدرجة أنه أصبح يمثل «إنتاج السينما المصرية»، فقد قدم مجموعة من الأفلام لم يسبق لفنان غيره تقديمها، ما جعله يحقق هدفاً سامياً جديداً، إذ أتاح فرص عمل للفنانين والفنيين وتشغيل الاستوديوهات والمعامل والعاملين فيها باستمرار وتشغيل دور العرض على مدى سبع حفلات يومياً.تهافت المنتجينولأن اسماعيل ياسين فنان حقيقي وكبير، لم يكن يستطيع رفض أي أعمال تعرض عليه، خصوصاً عندما شعر بأن كثر يعتمدون عليه في فتح بيوتهم، لدرجة أن المنتجين كانوا ينتظرونه على الطرقات أثناء خروجه من البلاتوه ليدخل آخر، وينتهزون الفرصة لطلب توقيعه على عقود أفلامهم، وكان يضطر أمام إلحاحهم على الموافقة وتوقيع العقود.لم يكن اسماعيل يهتم أو يشترط أداء دور البطولة المطلقة، بل أدى أدواراً ثانية وثالثة ودور «السنيد»، وكان يقتصر دوره أحياناً على أن يكون «صديق البطل» الذي يبثه شكواه أو يعلن له حبه لفتاة لا يستطيع الوصول إليها أو يستشيره للخروج من الورطة التي وقع فيها، لدرجة أن فريد الأطرش حين أراد تصوير فيلم في تلك الفترة عرض على اسماعيل ياسين مبلغ 15 ألف جنيه، على أن يتفرغ لمدة 15 يوماً لتصوير دوره في الفيلم، لكن اسماعيل اعتذر بلطف لأن فريد كان من أعز أصدقائه، وأكد له أنه لن يستطيع فعل ذلك، فأمامه ارتباطات لخمسة أفلام ما اضطر فريد الأطرش إلى تأجيل تصوير فيلمه حوالى شهر ليتمكن اسماعيل من التفرّغ له!ذات يوم سافر اسماعيل إلى الإسكندرية لتصوير أحد أفلامه هناك، مصطحباً أسرته معه لأنه لم يعد يراها أو يجلس معها، قصد موقع التصوير في اليوم الأول ووقف أمام الكاميرا بالقرب من كورنيش الإسكندرية، وما إن قال المخرج «اكشن» ودارت الكاميرا، حتى فوجئ العاملون في الفيلم باسماعيل يصرخ قائلا:- أبويا.. أبويا.ولم يكن هذا الكلام ضمن الحوار ولم يتضمن المشهد أباً ينادي عليه إسماعيل، فسأله العاملون سبب تفوهه بهاتين الكلمتين فأشار إلى رجل وامرأة يجلسان أمام أحد البارات، على طريق كورنيش الإسكندرية، وكانا في حالة سكر واضح.كان الرجل والد الفنان اسماعيل ياسين، فتوقف التصوير بعدما توجه اسماعيل إلى والده وأصرّ على اصطحابه إلى أحد الفنادق، وبعدما أفاق هذا الأخير من سكره أعطاه نقوداً وطلب منه السفر فوراً إلى السويس، وما كاد اسماعيل ينتهي من تصوير الفيلم حتى لحق به وهناك تولى بنفسه تصفية محل والده بعدما وجده فارغاً، واتفق معه على أن يخصص له راتباً شهرياً قدره 40 جنيهاً يساعده على مواجهة التزاماته، وظل الأمر كذلك حتى تُوفي الأب بعد عامين، فبكاه اسماعيل طويلا وحزن على فراقه، فقد أحبه إلى درجة لا توصف وحاول أن يعوضه عما فات ويغدق عليه الأموال وينقذه مما وقع فيه... ولكنه القدر.تفكير في المسرحبين عامي 1947 و1952 مثل اسماعيل ياسين 75 في المئة من الأفلام التي صورت في تلك الفترة... وهو رقم قياسي لم يحدث مع ممثل في تاريخ السينما العربية... لغاية اليوم! قدم اسماعيل نماذج متنوعة ابتداء من دور الصعلوك إلى دور الرجل الثري وصاحب الأعمال، وقد تتشابه الأدوار أحياناً ولكن بأفعال مختلفة. كتب أبو السعود الأبياري غالبية الأفلام التي مثلها اسماعيل غير أنه عمل مع مخرجين لم يكونوا مؤهلين دائماً للإخراج الكوميدي... بمعنى آخر كانوا يفتقدون إلى الحس الكوميدي وروح السخرية، وكان كل هدفهم الربح واستغلال «فترة الرواج التجاري» لاسم إسماعيل يس الذي بات مطلوباً ومسوقاً لأي عمل قبل أن يُعرف مضمونه، بل كان الاتفاق يتم على أساس اسم اسماعيل ياسين أولا، ثم تأتي بعد ذلك «العناصر الأخرى» من قصة وإخراج وتصوير وممثلين!!ولكن قبل أن ينقضي عام 1954، توقف إسماعيل يس وسأل نفسه:-يااه يا اسماعيل... عمرك كنت تحلم باللي انت حققته ده... الحمد لله... مفيش حاجة معملتهاش... لدرجة إني مبقتش عارف إيه تاني ممكن أقدمه.- أيوه عندك حق... لازم بقى أقف شويه وأشوف إيه اللي لازم يتعمل وإيه اللي ميتعملش... وإيه اللي أنا عايزه من السينما.كانت فكرة المسرح تشغل بال اسماعيل، وفكر في طرحها على الأبياري.ذات مساء كانا معاً في حفلة أقيمت في «حديقة الأندلس» قدم خلالها اسماعيل منولوجات أمام مجلس قيادة الثورة على رأسه محمد نجيب، وكان رئيساً للجمهورية آنذاك وجمال عبد الناصر، ولقي مونولوج «عشرين مليون وزيادة» نجاحاً كبيراً، ونال تهنئة الجميع بعد اختتام وصلته، فقبله أبو السعود وقال له:- عندك كل الشعبية دي وساكت؟!- مش فاهم يعني اعمل إيه... ما أنا بغني أهه.- أقصد دلوقت لك اسم كبير وجمهورك غفير، وعيب قوي مايكونش في مصر غير مسرح كوميدي واحد اسمه «مسرح الريحاني»، إنت دلوقت متقلش شهرة عن الريحاني الله يرحمه، ليه ما يكونش عندك فرقة مسرحية باسمك يبقى اسمها «فرقة اسماعيل ياسين» أو «مسرح اسماعيل ياسين»، وأنا واثق من نجاحها وعلى استعداد لكتابة أعمالها المسرحية.أعجب اسماعيل بالفكرة تماماً، ولكنه قال لـ أبو السعود:- لكن الفكرة دى محتاجة مسرح وإحنا معندناش مسرح وده يتكلف كتير.- المهم الأول انت موافق على الفكرة في حد ذاتها؟- طبعا.. بكل قوة ورغبة!- خلاص سيب الموضوع ده عليّ.- ماشي وأنا تحت أمرك في اللي تطلبه... وهعمل كل اللي أقدر عليه.غير أن أبو السعود لم يبدأ البحث عن المسرح، بل عن المسرحية واستطاع تحديد أفكار أكثر من مسرحية. اختمر المشروع في وجدان اسماعيل ياسين ووجد أنه والابياري سيكونان ثنائياً رائعاً ومثمراً، خصوصاً أن الأخير هو المؤلف «الملاكي» لغالبية أفلام اسماعيل آنذاك.