ذاكرة الجسد تشفيك... واجهوا الألم لينقلِب إلى سكينة

نشر في 26-05-2010 | 00:00
آخر تحديث 26-05-2010 | 00:00
ميريام بروس معالجة نفسية تملك خبرة 30 سنة في مجال العلاج بذاكرة الجسد، تقيم محاضرات وورشات عمل كثيرة في فرنسا ومختلف دول أوروبا. وقبل أن تبلغ الأربعين أصيبت بسرطان في المبيض، فأجريت لها جراحة استئصال وغدت حالتها ميؤوساً منها. وعند خروجها من غرفة الجراحات وهي لا تزال في سباق نصفيّ يسبق الإفاقة من التخدير، سمعت صوتًا يقول لآخر: {لا أرى ضرورة لإخضاع مثل هذه الحالة إلى جراحة... لقد قضي الأمر، ولا أعتقد أنها ستبقى على قيد الحياة ثلاثة أشهر بعد}.

كيف استطاعت ميريام مواجهة الموت؟ كيف تغلّبت على آلامها وشفيت جسديًا ونفسيًا وروحيًا؟ قصة حياة نموذجية روتها المؤلفة في كتاب {ذاكرة الجسد تشفيك} الصادر عن {دار الفراشة}.

كانت ميريام بروس تحتضر على سريرها في المستشفى، وفي صباح أحد الأيام وصل رجل من التيبت رأته منتصبًا أمامها، فخالت عند رؤيته أنها انتقلت إلى العالم الآخر. أخبرها أنه جاء بناءً على طلب إحدى صديقاتها، وسألها: {هل تريدين أن تعيشي وتشفي؟}.

ذهلت ميريام ولم تعرف بما تجيب. كل ما أرادته هو توقف الألم الرهيب الذي تشعر به، ثم فكرت بابنتها التي تودّ أن تراها تكبر، وأرادت أن تفهم ما يجري معها، وما معنى هذا الألم الذي يمزّقها، فأجابت {نعم}. نظر الرجل التيبيتي إليها بهدوء شديد وأجابها: {حسنًا، سأساعدك لكن بثلاثة شروط. الأول، أن تحاولي العودة إلى الحياة بعد أن تجدي لها معنًى. الثاني، أن تفعلي كلّ ما أطلبه منك. الثالث، أن تنشري ما تعلّمته بعد أن يتحسّن حالك!}. وهكذا بدأت رحلة المؤلفة في صراعها مع الموت.

مواجهة الألم

كان الرجل يأتي لزيارتها يوميًا، ويسألها فور وصوله: {هل تريدين أن تعيشي اليوم؟}، فتجيبه بالنفي عندما تصبح المعركة متعبة ويسيطر الخوف على أنحاء جسمها فيصيبها بالشلل. عندها يرحل بصمت وتبقى وحدها هائمةً مع عذاباتها تبحث عن معنى لحياتها. لكنها معظم الوقت كانت تقول نعم، فلم يتخلَّ معلّمها عنها.

بدأ المعلّم بتلقينها مواجهة الألم لا الهرب منه باللجوء الى عالم المورفين. علّمها كيف تصغي إلى ألمها لتسمع ما لديه. علّمها أن تتبع ألمها لتكتشف معناه ثمّ تجتازه كي تستمرّ في التقدم. وخاطرت بخفض نسبة المهدئات التي تتناولها لئلا تفقد الإحساس بما يحصل في جسدها، ورضيت أن تشعر بالألم بما أنّ عليها المرور بهذه التجربة لتعيش. قامت بهذه الخطوات حتى النهاية، الى حيث يترك الألم صاحبه وينقلب ليفسح في المجال أمام السكينة.

في أثناء مواجهتها الألم، علّمها الرجل التيبيتي أن تبحث عمّا أوصلها إلى مشارف الموت، وأن تتساءل لماذا وصلت الى هنا وكيف.

استكشاف الماضي

بدأت المؤلفة تبحث عبر مسح أحداث حياتها منذ بدايتها، وراحت، تدريجًا تسمّي الأشياء بأسمائها وتستكشف ماضيها تحت ضوء جديد. كان الأمر أشبه بإعادة ترسيخ علاقتها بنفسها. شعرت بأنّ العذابات التي خزّنتها منذ أمد طويل وتّرت جسمها وجعلته يتصلب الى حدّ أنها منعته تقريبًا من العيش.

تذكّرت أيّام رضاعتها والحضن الذي رعاها، ثم تذكرت نفسها في غرفة استقبال باردة تحت ناظري جدة قاسية وعمّة تكره الفتيات الصغيرات، وفي آخر الغرفة صبي أشقر يلقى كل اهتمام منهما. وشعرت بانقباض مؤلم في أحشائها، فهي أيضًا فقدت أمها وأباها، فلماذا لا يهتمّ الآخرون بها؟ ما الخطأ الذي ارتكبته، وما الذي فعلته لتستحق هذه المعاملة؟

وعلّمها التهاب أذنها المتكرر أنه ينبغي أن تمرض لتنال بعض الحبّ، أو على الأقلّ ما يشبه الاهتمام، فكانت تمرض أو تدّعي المرض لتشعر ببعض الاهتمام.

في السابعة من عمرها اصطحبوها الى الدير، وتذكرت طعم المرارة واليأس الذي ساورها ذلك الأحد، رائحة الشمع والحساء في غرفة الاستقبال، والقبلة الباردة التي طبعتها على رأسها الراهبة المكلّفة باستقبالها. وخطر ببالها أنها تسبّبت من دون شك بمصيبة عظيمة لأهلها، وأنّ عليها التزام الصمت وطاعة القواعد المتبعة في المدرسة الداخلية.

وعندما بلغت ميلادها الثاني عشر استدعتها الراهبة الأمّ، رئيسة المدرسة، الى مكتبها لتعلن لها أنها سمعت نداء الرب في ما يخصّها، وأن عليها أن تعدّ نفسها لتصبح راهبة.

الحبّ الأول

رفضت بروس اقتراح الراهبة، فكل ما كانت ترغب فيه هو الخروج من الدير. وبانتظار ذلك، أمضت أسابيع في غرفة التمريض تكافح ضدّ إصابتها المتكررة بذات الرئة. وهكذا قرّرت أن تصبح طبيبة لتشفي المرضى، أو أولئك الذين يحتاجون مثلها إلى الإصابة بالمرض كي ينالوا بعض الحب. ووجدت نفسها فعلا تدرس الطب!

وتذكرت أيضًا أول هدية تلقتها وهي عبارة عن رحلة خاصة في طائرة صغيرة، وكانت في سنتها الجامعية الثانية. عندما التقت عيناها بعيني الطيار وأخذها بين ذراعيه، تملّكها شعور جميل وأحسّت بالدفء، وعاد إليها الأمل.

أصبح ثوب العروس جاهزًا وهي في سن العشرين. حملته بين يديها وإذا بهاتف الجرس يرن. طائرة خطيبها تحطمت لتوّها وتحطم معها مستقبلها.

انهيار

تذكرت وهي على سريرها المنزل البارد الذي يعجّ بالقمصان البيض والكلمات الرقيقة والوجوه المتعاطفة، والذي حاولت فيه أن تموت. كانوا يقولون: {انهيار عصبي}، أمّا هي فكانت تشعر أن المرض وحده لم يعد يكفي، وأن كلّ ما فيها ينفصل عن الحياة ليطفو في اليأس والفراغ.

تساءلت بروس بعد أن غادرت مركز الرعاية: ماذا لو كانت الأم الرئيسة محقة في ما قالته حين كنت في المدرسة؟ ماذا لو أن رفضها لدعوة الرب كلّف خطيبها حياته؟ وقرّرت عندها الانضمام الى الراهبات الكرمليات.

كانت السنوات الخمس التي قضتها في الرهبنة صعبة ومؤلمة. أمضتها وهي تستمع إلى جسدها المحروم من أي لذة، فأدركت أنها امرأة حيّة مسكونة بالمشاعر، فتركت الرهبنة وعادت إلى الحياة في محاولة للعثور على هذا المعنى.

عادت إلى الحياة، لكنها لم تستطع العودة الى دراسة الطب. ووجدت عملا في المستشفى حيث تعلّمت كيف تعتني بأجساد الآخرين. وأصبحت مساعدة طبيب، ثم تعلّمت التجارة والصناعة، وغدت رئيسة شركة أخيرًا وامرأة عاشقة أيضًا. لكنّ الرجل الذي أحبته وأنجبت منه تخلّى عنها قبل أسابيع عدة من ذاك الصباح حين استيقظت وهي تسبح في دمها وتحتضر.

الحكيم التيبتي

عندما دخلت الى المستشفى وهي تسبح في دمها، كانت امرأة عقلانية منطقية ومنهجية. لم يكن لديها أدنى فكرة عما جرى في حياتها. لكن، يومًا بعد يوم، وعلى مدى عشر سنوات، علّمها هذا الحكيم التيبتي أن تنظر الى الحياة من منظار جديد، وأن تستمع بشكل مختلف وأن تشعر وتحسّ بكامل كيانها. وفيما راح جسدها يفهم ويتحرّر من البصمات المؤلمة، تطوّر فكرها وتغيّرت نظرتها. لقد قادها الحكيم التيبتي الى حدود الخوف من الموت. ولندعها تذكر ما فعل:

{فتح لي أبواب وجود آخر حيث نتحرّر أكثر مما نشفى. وأطلق لساني ووعيي. لقد رافقني وشجعني على الذهاب الى ما هو أبعد من عقلي، ومن ثم مشاعري لأتواصل مع أحاسيسي وأستمع إلى ما يقوله الجسم عبر هذه الأحاسيس. ساعدني على إيقاظ ذاكرة جسدي الذي يحمل مصدر آلامي، وبصمات جميع تشنجات حياتي وآرائي. علّمني ألا أخاف، وكيف أستعيد تلك الذاكرة وأتبعها حتى منبعها لأفرغها وأتخلص منها. أفهمني أن الكلام يساعد على اجتياز طبقات الذاكرة، لكنه لا يكفي... وفهمت عبر التجربة أنه ينبغي تعديل وتغيير ما هو مدعوك وملتوٍ في الجسم عبر إعطائه حركة جديدة}.

مرّت المؤلفة بألم عظيم عندما استيقظت ذاكرتها المخفية، وحرّك الثورة على أوجاع طفولتها: غياب والدتها واللامبالاة القاسية لوالدها الذي لم يكن والدها في نهاية الأمر، وكراهية عائلته الشديدة تجاه طفلة غير شرعية. لم يخبرها أحد بهذا كلّه، لكنّه كان متجذرًا ومترسخًا في داخلها. كان يكفي أن تتعلم كيف تستمع الى جسدها، لكن هذا الأمر تطلّب منها سنوات.

غادرت المؤلّفة المستشفى واكتشفت علم النفس، وتعلّمت اليوغا والمعالجة بوخز الإبر وعلم الأنساب والتدليك. زارت معلمين وأطباء وعرّافين حتى وصلت إلى الفيليبين. بحثت في الأديان والطقوس والثقافات والتقاليد ولم يعد أي شيء يكفيها.

طبّقي

في أحد الأيام نظر المعلم التيبيتي في عينيها حتى الأعماق، وقال لها: {مارسي الآن ما تعلّمته}، ومن ثم رحل ولم يعد.

راحت ميريام بروس تطبّق ما تعلمته. وبدأ الناس يأتون لرؤيتها فتساعدهم، كما ساعدها معلمها، على الاستماع إلى أجسادهم وتحرير ذاكرتهم لتتحسّن. رأت هؤلاء الناس يمرّون بدورهم في ما مرّت به. وتابعت معهم البحث من دون كلل عن {الكيف} و{اللماذا}. فأدركت إلى أيّ مدى ذاكرتنا مسجّلة في جسدنا. وكي نتحسن لا بد من أن نغوص إلى أعماق الجسد لنجد بشكل ملموس أثر كل ما ورثناه، وكل ما حصل لحظة الحمل، ولحظة ولادتنا، وفي خلال حياتنا. وفهمت، وتأكدت من أننا كائنات روحية في جسد ماديّ، لذا ينبغي أن نستكشف في الجسد الذي سيسمح لنا بالبحث عن خلاصنا الأكبر عبر عذابنا الأعظم.

كي تشفيك ذاكرتك ينبغي أن تواجهها، وأن تبحث عن جذور الألم الحقيقية التي ترسخت في جسدك. ولا بد من القبول برؤية ما أغمضنا عيوننا من دونه، والاستماع الى ما يقوله جسمنا، حتى وإن كان مؤلمًا ومتعبًا.

back to top