حبيبة الشعراء المتخيَّلة... خيطٌ من دخان!

نشر في 14-02-2010 | 00:00
آخر تحديث 14-02-2010 | 00:00
صورة المرأة المتخيلة لا تزال شاغل الشعراء والنقاد على السواء في العالم العربي، فالشعراء دائماُ يعيشيون بين حد الحبيبة الواقعية والحبيبة المتخيلة، والحبيبة التي يكتبون عنها في شعرهم تختلف عن الحبيبة التي يلمسونها أو يتزوجونها.

نقرأ كثيراً عن صورة المرأة التي يتغزل بها الشعراء، تلك المتخيلة في ذهنهم، لكن نادراً ما نقرأ امرأة قديمة تكتب شعراً في رجل، كأن ذلك من بين المحرمات أو الممنوعات والرذائل، حتى المرأة التي كان يُقال فيها شعراً كانت القبيلة تمنع الشاعر من الزواج بها. نقرأ كثيراً في شعر التراث حباً يُقال في المرأة وعيونها وجسدها، لكن معظم ما قيل بقي هلامياً أو عن كائنة غير محسوسة... آلاف القصائد عن العيون الجميلة والشعر الأسود، لكن قلّما نجد في الشعر العربي القديم (وحتى الحديث) قصيدة عن لحظة الحب وتجربته، وربما جاء تهرّب الشعراء من التفاصل لصالح العناوين العريضة، وربما جعلوا من الحب قضية بحد ذاتها ولم يلمسوا الحبيبة، كأن الحب شأن ميتافزيقي بالنسبة إليهم، أو هم ورثوا عن أجدادهم لوعة الغياب، غياب المرأة تحديداً إلى جانب حبهم للبكاء على الأطلال، وفي مكان آخر كأن مجدهم يأتي من الانغماس في الكتابة عن {المرأة المستحيلة{.

لنقل إن الشعراء يعيشون صراعاً مع الحبيبة المتخيلة لأجل كتابة الشعر فحسب، إذ يوصفون غالباً بأنهم يطاردون أنثى أبدية متخيلة في قصائدهم و{كأنهم يطاردون خيط دخان} على حد تعبير الشاعر الراحل نزار قباني، إنها الوهم الذي يكابده الشعراء وجعل الكاتب دو موباسان يسمي الشعراء في مقالة له بعنوان {حبّ الشعراء} بأنهم {قاطفو النجوم العجّز} يقول: {إن الانفعال الطبيعي في الروح الشاعريّة، مشحوذاً بالتوتّر الفنّي الذي يستلزمه الخَلْق، يدفع الشعراء، هؤلاء الكائنات النخبويّة، ولكن الفاقدة للتوازن، إلى تَصوّر نوعٍ من الحب المثالي، الغائم، الفائق الحنان، الذهولي، غير المشبَع أبداً، الشهواني من دون جسدانيّة، الذي من رقّته يوقعه أدنى شيء في غيبوبة، حبّ مستحيل التحقيق، ويفوق طاقة البشر. لعلّ الشعراء هم بين الرجال الوحيدين الذين لم يحبّوا امرأة على الإطلاق، أقصدُ امرأة حقيقيّة من لحم ودم، بصفاتها الأنثويّة الخاصة، وعيوبها الأنثويّة، وعقليّتها الأنثويّة، العقلية المحدودة واللذيذة، وبأعصابها الأنثويّة، وبأنثويّتها المبلبِلَة. كل امرأة يلتهب لها حلمهم هي رمزُ كائنٍ لغزيّ، لكنّه خرافيّ: إنه الكائن الذي يغنّيه منشدو الأوهام هؤلاء{.

المهم القول إن صورة المرأة في الشعر العربي بقيت مثل شبح رمزية بامتياز، وإذ كان شعراء الجاهلية أكثر جرأة في أوصافهم للمرأة، تبدو صورتها في شعرهم متشابهة تؤسس لوجود امرأة نمطية، مثال الجمال. ويستخلص الشاعر صلاح عبد الصبور أوصاف هذه المرأة المكتملة في قوله {المرأة الطويلة البيضاء البدينة، سوداء الشعر والعينين، رقيقة الرائحة، طيبة الملمس، ثقيلة الخطو والحركة}.

وزاد وتيرة المرأة المتخيلة في الشعر ما يسمى الحب العذري، وما تلاه من أخبار عن ليلى وحبيبها وقيس وبثينة وحبيبها جميل، كأن العالم العربي كان يعيش في دائرة المرأة الهلامية السرمدية التي ربما تشبه المرأة الافتراضية في زمن الإنترنت. ربما كان الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة أحد أبرز من جعل المرأة محسوسة في قصائده، مخرجاً إياها من دائرة الوهم، فهو عاش للحب، ولا شيء غيره، ووهب حياته له، واتخذ منه متعته الكبرى ولعبته المفضلة، فلم تكن حياته إلا قصة حب طويلة متعددة الفصول والشخصيات، ولم ينفك يؤدي دور {الفتى الأول} في مسرحية العشق الحجازية حيث عاش هذا الثري الجميل المدلل مستمتعاً بشبابه إلى أقصى الحدود، يتتبع جميلات عصره، متغنياً بجمالهن دونما أن يغيب عن باله الاعتزار بجماله.

اليوم وإن كان شعراء كثر يعيشون هاجس المرأة المتخيلة في حياتهم، بل يقعون أسرى أمراة واحدة مثل ريلكة الذي أحبّ سالومي قاهرة فرويد ونيتشه، أو الشاعر الفرنسي بول إيلوار الذي أحب غالا وخطفها منه الرسام سلفادور دالي، تبقى الطامة الكبرى أن الشعراء ضعفاء أمام المرأة، وهي بدورها ضعيفة أمام الشعر، تحب الكلام العذب بل تسعى إلى سماعه، والشعراء يستعملون لغة الشعر للوصول إلى قلبها.

يُقال إن أحد الشعراء اللبنانيين كان يحب فتاة وكان يستعد لطباعة كتابه، دوّن في مقدمته إهداء الى حبيبته فلانة، لكن قبل الطباعة {انفرط} عقد الحب بينها وتعرّف إلى فتاة جديدة فأهداها الكتاب وكأنها حبيبته الأولى. تبيّن هذه الواقعة كيف يجعل الشعراء من القصائد وسيلة للتقرب من الفتيات والنساء، خصوصاً حين تقول القاعدة إن الرجل يعجب من خلال النظر والمرأة من خلال السمع، المرأة تحب الكلمات الجميلة والشاعر يجيد صناعتها وصوغها، لم لا، وشعاره المعروف {أعذب الشعر أكذبه}؟

نزار قباني

على أن سمة علاقة الشعراء بالمرأة الأبرز تبقى ظاهرة الشاعر السوري نزار قباني، فلسنوات طويلة ظلّت كتبه الأكثر مبيعاً في المعارض والمكتبات، تتهافت النساء والمراهقات لمتابعة قصائده الجديدة أو شراء دواوين من توقيعه أو سماعه في أمسيات كانت تغص بالجمهور {العاشق} والمتّيم. لكن هذه الظاهرة خفت بريقها بعد رحيل قباني الذي كان على مدى عقود علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي، وشكّل صدمة في وعي كثر بسبب لغته {الجريئة} ومواضيع المرأة التي كان يتحدث عنها.

لم تعد لغة قباني حاضرة بقوة في الوسط النسائي، ولم تعد كتبه الأكثر مبيعاً، وثمة من يقول إن النساء لا يتابعن جوهر شعره الذي يبدو ضد المرأة غالباً ويتسم بالذكورية والشهريارية، وإن كان بعضهم يطلق على قباني تسمية {شاعر المرأة}. يوضح الناقد محي الدين صبحي أن نساء قباني في قصائده مخلوقات أبدعتها مخيلته. نساء لا وجود لهن في الواقع ولا في حياته إلا لحظة فكر فيهن وأبدعهن فأحبهن وعاشرهن ونقل لنا حواراته معهن ثم تلاشين بمجرد أن انتهى من نظم القصيدة، فهن مجرد موضوع لتشكيل القصيدة.

الواقع أن نظرة قباني إلى المرأة لا تختلف في عمقها عن نظرة الرجل إليها في العصر العباسي. فكلاهما صنّفاها أدنى مرتبة من الرجل، غير أن {شاعر المرأة} اختلف في موهبته في قطف مفردات رومنسية استأثرت باهتمام كثر على رغم سطحيتها غالباً.

في زمن الإنترنت ورواج ما يُسمى الحب الافتراضي والمرأة الافتراضية، تلوح في الأفق أفكار مثل نهاية الحب وضياع امرأة الشاعر المتخيلة، خصوصاً مع رواج حقن البوتوكس والسيليكون والشفاه البارزة... إنه عصر التلاشي والارتباك.

back to top