المنبوذ

نشر في 09-07-2010
آخر تحديث 09-07-2010 | 12:01
 أحمد مطر قبل ما يقرب من ستة أعوام، بدا شيخ كتّاب أميركا اللاتينية غابريل غارسيا ماركيز وكأنه قد عاد الى صباه، فمثل أي تلميذ كسول ومشاغب يطرد من الصف واجه ماركيز قرار منعه من المشاركة في المؤتمر العالمي للغة الأسبانية الذي ينظمه كل أربع سنوات {مجمع الدول الناطقة بالأسبانية}.

حينها قالت السيدة ماجدالينا فيلاسي، وزيرة الثقافة الأرجنتينية التي استضافت ذلك المؤتمر، أن مؤلف {مئة عام من العزلة} قد منع من الحضور بسبب ما أحدثه من إزعاج في المؤتمر الذي عقد في المكسيك قبل ذلك حين قال إن {الإملاء}... ذلك الإرهاب النازل على البشرية من المهد الى اللحد يجب أن يحال على التقاعد!

ويبدو أن ماركيز عندما اقترح رمي الإملاء في مقلب النفايات لم يكن يتوقع أن يصبح منبوذاً الى ذلك الحد. لكن هذا ما حصل.

وقد استفز قرار منعه آنذاك زميله الروائي البرتغالي الراحل الحاصل على جائزة نوبل جوزيه ساراماغو الذي هدد بإعادة بطاقة الدعوة الخاصة به الى منظمي المؤتمر إذا منع ماركيز من الحضور.

ومن جهتها، أكدت وزيرة الثقافة الأرجنتينية أن مجمع اللغة هو الذي أصرّ على منعه من المشاركة.

بعيداً عن ملابسات تلك الحادثة، يستوقفنا هنا تساؤل عن الدافع الحقيقي الذي دعا الروائي الكبير الى اقتراح إلغاء {الإملاء} من اللغة الإسبانية، أكان ذلك نابعاً من حكمة خبير باللغة، رأى بعد طول التجربة أن الوقت قد حان لتخليص اللغة من زوائدها غير الضرورية وتيسير الأمور على الناشئة من الكتاب؟

كلا... فالإملاء ليس زائدة دودية تلحق باللغة. إنه اللغة نفسها، وعلى المبدع أن يبذل الجهد لأجل إتقانه. إذا كان يعد نفسه للكتابة بالقلم، لا للرواية باللسان.

ما سبب دعوة ماركيز الغريبة إذاً؟

السبب، ببساطة شديدة، هو ضعف ماركيز الشخصي في الإملاء، وتلك مشكلة رافقته مثل كعب أخيل طيلة حياته.

وقد اعترف ماركيز في سيرته {عشت لأروي} بضجره من الإملاء، لأنه لا يحسنه، وروى حكاية من ماضيه الدراسي، حين كان عليه أن يكتب خطاب أحد احتفالات المعهد الرسمية الافتتاحي، فقال إنه بعد أن قابل المدير لعرض الخطاب عليه، نبّهه الأخير بفظاظة الى عدد الأخطاء الإملائية التي ارتكبها.

يقول ماركيز: {أكثر ما أثّر بي في تلك المقابلة هو مواجهتي، مجدداً، لمأساتي الشخصية في الإملاء. فأنا لم استطع فهمه، وقد حاول أحد أساتذتي أن يوجه اليّ الضربة القاضية، بينما حاول آخرون مواساتي بالقول إنّه داء يصيب كثيرين. وحتّى اليوم، بعد أن صار لي 17 كتاباً منشوراً، ما زال مصححّو تجاربي المطبعية يشرفونني، بكياسة، بتصويب أخطائي الإملائية، على أنها مجرّد أخطاء مطبعيّة}.

حسناً... إنها مشكلة شخصية، كان لماركيز أن يذلّلها بالاستيعاب، أو بالتعايش معها، ما دامت قد أصبحت علّه مزمنة، خصوصاً أنّ المصحيين لن يتخلّوا عن كياستهم أمام روائي عظيم مثله. لكنّه بدلاً من ذلك، حاول أن يتفادى المشكلة بإلغائها وكأنها بثرة في يده وحده، وليست ضرورية حيوية للغة أمّة كاملة.

ويبدو أن ماركيز كان يحتمي بشيخوخته وبطول قامته الإبداعية، عندما واتته الجرأة على المطالبة أخيراً بإعدام ذلك {الإرهابي} الذي رافقه منذ الطفولة. لكن لم يدر بخلده أنّه. بعد هذا العمر كله وهذه الشهرة، سيواجه من له القدرة على طرده، ببساطة، من الصف!

لو كنت في مكان ماركيز لهززت يدي في وجوه سدنة اللغة الإسبانية، ولقلت لهم بمنتهى الاستخفاف: ما هذا الهراء؟ لم يبق إلا ان تطلبوا مني احضار وليّ أمري. ماذا فعلت يا سنيورات كي أستحق غضبكم هذا؟ إنّه إملاء ليس إلا... مجرّد إملاء. أأهون عليكم لأجل هذا الشيء التافه؟ ماذا سيقول عنكم إخواننا العرب إذا وصل اليهم خبر تحجركم وقلة عقلكم أن صبيانهم هناك قد تجاوزوا من زمان مسألة ضرب الإملاء على مؤخرته أنهم الان لا يتورعون عن المطالبة بإعدام النحو والصرف بل ويعمدون بكل سلامة وعذوبة الى تجريد الكلمات من معانيها وأنهم ليتساءلون بسخرية مرة ما حكاية المعاني هذه التي جاءتنا على آخر الزمن؟

ومع ذلك فان لغتهم الرؤوم تبدو سعيدة بهم، ولا يهمها شيء سوى الم فراقهم الغالي عليها ولا تزال تناغيهم بكل حنان:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟

وهي على يقين تام بأنهم، عندما يكبرون سيسألون الغواص عن صدفاتها وعن الروبيان أيضاً كي تستطيع مجامعهم اللغوية المجددة أن تطبخ {الكامخ} بالروبيان، لتعد لهم الشاطر والمشطور في الأعوام المقبلة؟

back to top