أسطول المساعدات إلى غزة وتأثيره في ثلاث دول عربية
بالنظر إلى السرعة التي تتطور بها الأحداث في الشرق الأوسط، نعرف يقيناً أن أمراً ما سيطرأ وسيمنح القاهرة الغطاء اللازم لتعود إلى الحالة التي سادت المنطقة قبل حادثة الأسطول، وتقفلَ معظم المعابر، هذا إذا لم نقل كلها.
أدى أسطول المساعدات المتوجه إلى غزة إلى مواجهة بين إسرائيل وتركيا، فيما وقف العرب على الحياد واكتفوا بمراقبة ما يحدث، إلا أن تداعيات هذه الحادثة كان لها تأثير عميق في مختلف العواصم العربية.مصر: تبدّل سياسيكان لهذه الحادثة التأثير الأسوأ في مصر، فلطالما ساعدت القاهرة بصمت إسرائيل في إحكام الحصار على غزة الخاضعة لسيطرة "حماس"، وقد أدى قرار تركيا دعمَ قضية "حماس" إلى فضح سر السياسة الخارجية المصرية هذا، الذي أخفقت القاهرة في إخفائه. لكن الأهم من ذلك أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بتقديمه نفسه كوسيط سني لا غاية له يحاول إنهاء الخلاف الأخوي المستشري بين "فتح" و"حماس"، نجح بضربة واحدة في تحييد رعاية إيران المزعومة لجبهة الرفض تلك، وتحدي دور مصر كقوة خارجية تتمتع بنفوذ كبير في السياسة الفلسطينية.لم تتمكن مصر حتى اليوم من التعاطي بنجاح مع مشكلة غزة، ويعود ذلك في جزء منه إلى الجمود السياسي الذي يطغى راهناً على مصر، بما أنها منهمكة في عملية انتقال السلطة المحلية، طوال ثلاث سنوات، حاولت أجهزة الاستخبارات المصرية أن توفّق بين "حماس" و"فتح" وفق شروط تناسب هذه الأخيرة، إلا أنها أخفقت. واليوم، ستسعى تركيا بدورها لمصالحة هذين الطرفين وفق شروط لا تتلاءم بالتأكيد مع المفاهيم الأميركية الإسرائيلية لما هو مقبول، ولا مع المتطلبات التي فرضتها اللجنة الرباعية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، وروسيا) على "حماس".وبما أن مصر كانت تحكم غزة، فمن المذهل أن يعاني نفوذ القاهرة في هذا القطاع تراجعاً حاداً على مر السنين، وكم هو محرج أن تُضطر مصر إلى التصدي لمناورة تركيا الإقليمية بإرسالها وزير خارجيتها السابق (والأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية) عمرو موسى إلى القطاع في زيارة أعطت "حماس" شرعية غير مسبوقة!على الرغم من ذلك، لا تنوي مصر فك الحصار نهائياً، فهي لم تنسَ بعد تلك الذكريات المخيفة عن تدفق مئات الآلاف من غزة إلى سيناء في مطلع عام 2008، فقد كان كثيرون منهم مسلحين ويتوقون إلى الانضمام إلى الإخوان المسلمين. صحيح أن القاهرة فتحت جزئياً معبر رفح بعد حادثة السفينة "مافي مرمرة"، غير أنها تمنع مرور بعض القوافل إلى القطاع وتضبط حركة الخروج منه. كذلك لا نعرف بعد ما إذا كانت مصر ستبقي هذا المعبر مفتوحاً، وإن بشكل جزئي، في المستقبل القريب. فالمصريون ينتظرون على الأرجح ليروا ما إذا كانت إسرائيل وقواتها البحرية سيتمكنان من تخطي عواقب حادثة الأسطول. وبالنظر إلى السرعة التي تتطور بها الأحداث في الشرق الأوسط، نعرف يقيناً أن أمراً ما سيطرأ وسيمنح القاهرة الغطاء اللازم لتعود إلى الحالة التي سادت المنطقة قبل حادثة الأسطول، وتقفلَ معظم المعابر، هذا إذا لم نقل كلها.في مطلق الأحوال، لو تمتعت مصر بقيادة أكثر جرأة وثقة بالنفس لنجحت في تحذير العرب من تصوير أردوغان كنظير معاصر لجمال عبدالناصر، كما بدأ الكثير من المحللين العرب والغربيين يصفونه، فالمصريون يستطيعون الجزم بكل ثقة أن تجربة عبدالناصر فاشلة، فقد قوّض هذا الرئيس الاقتصاد المصري، وألقى بالبلد بين أيدي السوفيات الذين كرههم المصريون، وأوصل مصر إلى حرب كارثية مع إسرائيل، وأرغم رئيسين مصريين على إمضاء أربعين سنة في محاولة إصلاح الضرر الذي خلفته الناصرية. وستتمكن حكومة مصرية أقوى وأكثر تماسكاً من تحذير العرب من الانتحار الجماعي السياسي الذي يقدّمه أردوغان، ولا شك أن واشنطن تتأسف على غياب حكومة مماثلة.سورية: تراجع أهميتها من التداعيات الواضحة لقرار تركيا الوقوفَ مع إيران ضد واشنطن في الخلاف النووي وتفكيكَها شراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل انتهاءُ دور أنقرة كوسيط في عملية السلام الإسرائيلية السورية، على الأقل مادام أردوغان وحزب العدالة والتنمية يمسكان بزمام السلطة. طبعاً، تشهد الجبهة السورية الإسرائيلية راهناً أحاديث عن الحرب أكثر منه عن السبل الدبلوماسية. على سبيل المثال، أخبر الرئيس السوري بشار الأسد الأسبوع الماضي محطة الـ"بي بي سي" أن الحرب محتملة، ومازلنا نجهل ما إذا كان الأسد يتحلى بالدراية الكافية لضبط هذه اللحظة الحاسمة.علاوة على ذلك، أججت الحوادث الأخيرة الكلام عن "تحالف شمالي" حقيقي سيشمل تركيا وسورية وإيران، والمفارقة أن هذا التطور سيحد بالتأكيد من خيارات الأسد الاستراتيجية وسيأتي على حساب سورية. لا تزال دمشق تعتبر تحسّن علاقاتها مع أنقرة بديلاً استراتيجياً لاعتمادها المتنامي على إيران، ولكن ليس في مصلحة الأسد أن يصبح الشريك الأصغر في تحالف بين دولتين إقليميتين قويتين، تركيا وإيران، وبالنظر إلى الاتجاه الذي تسير فيه التبدلات السياسية الإقليمية، قد تصبح سورية أقل أهمية من الركن الرابع "للتحالف الشمالي"، حزب الله بقيادة حسن نصرالله.إن كان الأسد قائداً متمرساً، فسيحاول راهناً اختبار المياه الدبلوماسية الإسرائيلية، وقد يتبيّن له أن الإسرائيليين مستعدون لدفع ثمن كبير لقاء صفقة سلام تؤدي إلى قطع العلاقات بين أنقرة وطهران بفاعلية. إلا أن الأسد لم يعرب عن مقدرات استراتيجية بارزة خلال سنوات حكمه، لذلك ستكون تداعيات بروز أردوغان كنظير معاصر لعبدالناصر على سورية مماثلة لظهور عبدالناصر بحد ذاته قبل نصف قرن. فهي تنذر بتراجع نفوذ القادة في دمشق.الفلسطينيون: سياسات قديمة وتحديات جديدةمع أن حادثة الأسطول أضعفت صورة الرئيس الفلسطيني محمود عباس دولياً، لم تساهم في تعزيز موقف "حماس" محلياً. صحيح أن عباس زار واشنطن الأسبوع الماضي، لكن تراجع موقفه الدولي بدأ منذ بعض الوقت، فيما تعزز موقف "حماس" نسبياً، واللافت للنظر أن هذا الواقع تجلى بين اللاعبين غير العرب، مثل الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، أردوغان، وبعض الدبلوماسيين الأميركيين السابقين، الذين يطالبون بشمل "حماس" كلاعب شرعي في أي عملية دبلوماسية في الشرق الأوسط. وقد صبت حادثة مافي مرمرة الزيت على نار هذه الحركة.ولكن بين الفلسطينيين أنفسهم، لم تدعم حادثة الأسطول مكانة "حماس" السياسية، فتظهر استطلاعات الرأي العام التي أجراها الخبير خليل الشقاقي بين 10 و13 يونيو أن "فتح" تحظى بدعم شعبي أكبر (45%) مقارنة بـ"حماس" (25%)، ما يُظهر أن الأوضاع لم تتبدل كثيراً عما كان سائداً في شهر مارس عام 2010. يبدو جلياً، إذن، أن الفلسطينيين ما زالوا يرفضون نموذج "حماس" ويفضلون ما تقدّمه السلطة الفلسطينية كبديل، حتى لو كان مدّ العواطف الدولية خارج الشرق الأوسط يتجه نحو "حماس".يشير هذان الرقمان إلى أن عباس يتمتع بالدعم الكافي ليتبنى موقفاً أكثر جرأة ويتحاور مباشرة مع إسرائيل من دون اللجوء إلى محادثات غير مباشرة تكثر فيها الوساطات. فضلاً عن ذلك، سيقوي هذا التبدل موقفه بين الفلسطينيين. لكنه سينهمك في الأسابيع المقبلة على الأرجح في رفض المساعي التركية الهادفة إلى تخفيف الحصار على غزة (أمر لا يريده عباس) وإجراء مصالحة بين "فتح" و"حماس" وفق شروط قد تنسف أي احتمال لتحقيق تقدم دبلوماسي على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية. يستطيع عباس إسكات منتقديه الدوليين باستئنافه بجرأة المحادثات المباشرة مع إسرائيل، مما قد يؤدي إلى إطالة إسرائيل فترة تجميدها بناء المستوطنات. ولكن مع أن عباس يعارض بوضوح الحرب مع إسرائيل، لم يتضح بعد ما إذا كان سيضطلع بدور القائد الجريء المستعد لاتخاذ الخطوات اللازمة لعقد السلام، أو أنه سينتظر أن تنوب عنه قوة خارجية ما (ربما الرئيس أوباما) وتقوم بما هو ضروري لإحلال السلام. *مدير تنفيذي في معهد واشنطن.