خزانات العصر الجليديّ... التنقيب عن المياه تحت رمال السعوديّة

نشر في 25-03-2010 | 00:01
آخر تحديث 25-03-2010 | 00:01
تعاني المملكة العربية السعودية الصحراوية ندرة المياه، لكن الملك استخدم اليوم فريقاً من العلماء الألمان للبحث عن الماء المحتجز في آبار جوفية تحت رمال المملكة المترامية الأطراف. ويمكن لعملهم الرائد تقديم الحلول لبلدان صحراوية أخرى.
يصطحب عالم الجيولوجيا الألماني راندولف روش (59 عاماً) زائرَيه في رحلة عبر الصحراء، فيسير بخفة على قمة كثيب صغير، فاتحاً قدميه كما لو أنه راقص باليه. فتسارع الريح إلى إخفاء أثار أقدامه وتحاول اختطاف قبعته الخضراء.

خلفه يسير زائراه القادمان من مدينة دارمشتاد الألمانية الجنوبية الغربية، وهما يحاولان بصمت التقاط أنفاسهما. تبلغ حرارة الهواء في صحراء الدهناء في هذا الوقت من السنة 32 درجة مئوية فقط، أي أبرد بنحو 20 درجة عما تكون عليه صيفاً. والهواء جاف، نقي، وخال من أي رائحة. توقف روش عند أعلى نقطة في الكثيب وراح يتأمل الكثبان النحاسية المتلألئة التي تمتد أمام ناظريه إلى ما لا نهاية، ثم قال بلهجة شوابية قوية: {تجسد هذه المنطقة حلم كل عالم جيولوجيا}.

مياه جوفية أحفورية

يعمل روش مع فريق شركة GTZ للخدمات الدولية (فرع من وكالة التطوير GTZ الفدرالية الألمانية) في الرياض منذ ست سنوات. فقد استخدمه الملك السعودي هو وزائريه، اللذين أتيا من الجامعة المهنية في دارمشتاد، للبحث عن الماء في الصحراء. فيعمد هؤلاء إلى حفر ثقوب يصل عمقها إلى ألفي متر، وإجراء اختبارات ضخ، وتطبيق عشرات تقنيات القياس المعقدة والنماذج الإلكترونية. وهدفهم من ذلك كله معرفة كمية المياه الجوفية الأحفورية المتبقية بين الطبقات الصخرية تحت شبه الجزيرة العربية.

يشمل المشروع الضخم أيضاً مركز هلمهولتز للأبحاث البيئية في مدينة لايبزيغ الألمانية الشرقية. يوضح روش: {بالاستعانة بكمبيوترات خارقة في المركز، نتمكن من محاكاة تيارات مائية جوفية بدءاً من العصر الجليدي الأخير، وصولاً إلى زمننا}.

قام ضيفاه، كريستوف شوث (47 عاماً) وأندرياس كاليوراس (34 عاماً)، بتحضيرات دقيقة ومتقنة استعداداً لهذه المهمة. ففي مطار مهجور قرب دارمشتاد، اختبرا معدات القياس والمسابر التي سيستخدمانها لقياس الرطوبة في التربة، فضلاً عن حركة المياه وعمرها.

يوضح روش، رجل أصلع قصير القامة أنفه معكوف وحاجباه يبقيان دوماً مرتفعين قليلاً: {لا مثيل لهذا العمل في أي بقعة أخرى من بقاع الأرض}. ثم يبتسم ويلتفت إلى شوث، الذي بدأ يرتقي الكثيب الرملي التالي.  ويتابع قائلاً: {في ألمانيا مثلاً، يقتصر عمل عالم الجيولوجيا على أمور بسيطة مثل استصلاح مناطق كانت تُستعمل سابقاً لأهداف صناعية أو مكباً للنفايات أو ما شابه}.

أما في المملكة العربية السعودية، فثمة مسائل حيوية ملحة بحاجة إلى معالجة. فما هي كمية المياه المتبقية في الآبار الجوفية؟ وكيف يمكن استخدام هذا المورد القيّم بطريقة تتيح للسعودية أن تؤمن لسكانها، الذين يتزايدون باطراد، الماء أطول فترة ممكنة؟

مخاوف أخلاقية

يسرف السعوديون راهناً في استخدامهم الماء ويهدرون كميات كبيرة منه. سينضب مثلاً مخزون الماء حول مدينة الرياض، وفق حسابات روش وفريقه، في غضون 30 عاماً فقط في حال بقي عدد سكان هذه المدينة 4.5 ملايين نسمة.

يذكر شوث: {راودتني بداية مخاوف أخلاقية بشأن العمل في هذا البلد بالذات}. فقد جعله أكبر احتياطي للنفط في العالم أحد أغنى لبلدان. كذلك وضعته المدينتين المقدستين مكة والمدينة في قلب العالم الإسلامي. ولعله البلد الأكثر تشدداً في تطبيق الإسلام. فترتدي المرأة السعودية في الأماكن العامة نقاباً يغطيها من رأسها حتى أخمص قدميها وتمضي معظم وقتها في المنزل. وفي مواعيد الصلاة التي تُقام خمس مرات يومياً، تتوقف الحياة تماماً. أما دور السينما والمسرح والحفلات فمحظورة في هذا البلد، الذي لا يستقبل السياح. وأي شخص يتجرأ فيه على التطاول على الله والنبي يُعدم علانية. بذلك تكون السعودية بلداً لم يعر يوماً أهمية لرأي سائر العالم فيه.

لكن هذه الأمة المنطوية على ذاتها تحتاج اليوم إلى مساعدة من الخارج، لأنها بدأت تعاني نقصاً في أهم الموارد على الإطلاق، الماء. لذلك، تحولت إلى مختبر للمناطق الجافة حول العالم، التي تشكّل نحو 40% من اليابسة على كوكبنا.

عندما زار شوث هذا البلد للمرة الأولى، تفاجأ بانفتاح شعبه. ويخبر أن زميله، باحث سعودي، يخطط لزيارته في ألمانيا قريباً هو وعائلته. في الماضي، كان مستحيلاً أن يعرّف سعودي امرأته إلى رجل آخر. ويضيف شوث أن هذا التغيير الاجتماعي قد يكون خجولاً إلا أنه ملحوظ. ثم يؤكد أن مشروع البحث هو في النهاية لخير هذا البلد: {يعاني الشعب نقصاً في المياه ويحتاج إلى حل. ويمكن للتقنيات التي نطورها هنا أن تُستخدم في بلدان أخرى}.

تسرّب المياه بعيداً

المياه الجوفية الأحفورية مصدر المياه الطبيعي الوحيد في منطقة تخلو من أي أنهار أو بحيرات، منطقة تشكل فيها كل قطرة مطر حدثاً بالغ الأهمية. فبعد العصر الجليدي الأخير، حين كان مناخ شبه الجزيرة العربية مماثلاً لمناخ مناطق السافانا اليوم من حيث الحرارة والمتساقطات، تغلغلت المياه إلى الجوف وتراكمت في فجوات بين طبقات الصخور الرسوبية.

يتوافر الماء بمعظمه في شرق السعودية، في مناطق تضم أكبر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي. لذلك، يعثر علماء الجيولوجيا غالباً على الماء بدلاً من النفط أو العكس. وهذا المخزون من قطرات الماء القيمة التي خلفها العصر الجليدي الأخير محدود، تماماً مثل النفط. لذا يعمل السعوديون اليوم على استخراج كثير من هذا الماء من آبار عميقة جداً، ما يؤدي إلى انخفاض مستوى المياه الجوفية. لذلك، تتسرب المياه المالحة إلى المياه الجوفية على طول الشاطئ.

في منطقة وسيع، الواقعة شرق الرياض على بعد نحو مئة كيلومتر، يحفر فريق روش ثقوباً عميقةً لاستكشاف طبقات المنطقة. ويتولى ماريو ريسيا، مدير شركة الحفر السعودية "الهجان لحفر الآبار"، مهمة اختبار الضخ. يتناوب عمال مهاجرون يرتدون زياً أصفر وخوذة كل 12 ساعة على العمل على وحدة حفر علوها 27 متراً في حرارة تبلغ 50 درجة مئوية في الظل. يخبر ريسيا: "نبذل قصارى جهدنا لمساعدتهم على تحمل الحر. فنؤمن لهم البرادات والمشروبات المثلجة".

وبإشارة من ريسيا، يبدأ الماء بالخروج إلى سطح الأرض، ماء نظيف دافئ. يا له من مشهد مؤثر في منطقة تبدو خالية من مظاهر الحياة، إلا من بعض البدو والجمال. تصلح هذه المياه للشرب، مع أن طعمها ثقيل بعض الشيء. ولا عجب في ذلك نظراً إلى أنها تعود إلى 25 ألف سنة.

صراع بين الزراعة والماء

قدِم ريسيا (71 عاماً)، رجل شعره أبيض قصير يرتدي سروال جينز باهت اللون وساعة رولاكس، إلى المملكة العربية السعودية عام 1968، حين كان يعمل مع شركة النفط الإيطالية Agip. يخبر: "كنا بالكاد نلمح شجرة في الأفق. وكانت مياه الصرف تجري وسط الرياض على مرأى من الجميع". لكن منذ عام 1974، حمل النفط الثروات إلى هذا البلد وازداد عدد السكان خمسة أضعاف. فبدت تلك الفترة مؤاتية للأجانب الذين تاقوا إلى عقد الصفقات، على حد تعبير ريسيا. من هنا نشأت الحاجة إلى تعزيز مصادر هذا البلد المائية، خصوصاً عندما حذا السعوديون حذو الأميركيين والإسرائيليين وأخذوا يستصلحون الصحراء.

تعاني المملكة اليوم مشكلة المياه نفسها التي تواجهها بقاع جافة أخرى كثيرة في شمال أفريقيا وإسرائيل وأستراليا وشمال وسط الولايات المتحدة. لكن 85% من التسعة عشر مليون متر مكعب من الماء التي تستهلكها المملكة سنوياً تُستخدم في الزراعة. ويُشكل الجزء الأكبر من هذه الكمية مياهاً جوفية غير متجددة. ولا يساهم ماء البحر المكرر في محطات تحلية المياه، التي تتطلب كثيراً من الطاقة، إلا بثمانية في المئة من مياه المملكة.

لكن السعودية كانت السباقة في الإقرار بأن الزراعة، إذا بقيت على ما هي عليه اليوم، قد تؤدي إلى هلاك البلد. لذا وضع قادته حداً لعهد الصحاري الخضراء. وفي خطوة أولى، حدوا من صلاحية وزارة الزراعة في المسائل المائية، ثم فرضوا تدابير أكثر صرامة. وقبل سنتين، ألغت الحكومة دعم زراعة القمح وطلبت وقف إنتاج القمح المحلي بحلول عام 2016.

يوضح محمد آل سعود (44 عاماً)، نائب وزير الموارد المائية: {يتمثل تحدي المملكة الأكبر في الصراع بين الزراعة والمجالات الأخرى التي تستهلك الماء، إذ يأتي أي تطور تشهده الزراعة على حساب الماء غالباً، التي لا يمكنك الاقتصاد في صرفها من دون التأثير سلباً في الزراعة}.

ويتابع آل سعود موضحاً أن الحكومة دعمت إنتاج القمح منذ سبعينات القرن الماضي، معتبرة أن هذه خطوة ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي. ثم يستدرك قائلاً: {لا يمكنني أن أدعوها دعاية كاذبة، إلا أنها لم تكن صحيحة}. فلا يتطلب الأمن الغذائي، حسبما يذكر آل سعود، بلوغ الاكتفاء الذاتي، إذ {يمكن تحقيقه بسبل أخرى}.

أراض زراعية في الخارج

درس آل سعود، الذي يرتدي عباءة بيضاء وشماغاً أبيض وأحمر، الهندسة الزراعية وإدارة المياه في الولايات المتحدة. وقبل تعيينه في منصبه الحالي في الوزارة، علّم في جامعة الملك سعود. تطل نافذة مكتبه على مئذنة بنية اللون، على غرار معظم أبنية الرياض. تحوم فوق هذه المدينة غمامة من الرمل والدخان، وقد اختفت ناطحتا السحاب الوحيدتان فيها وراء غيوم من الغبار ضاربة إلى الصفرة.

يخبر نائب الوزير أن استيراد القمح يشكل بديلاً منطقياً لزراعته. كذلك تستطيع المملكة تخفيض إنتاجها من علف الحيوانات الأخضر. أما خيار الزراعة الآخر فيقوم على شراء أراض زراعية في الخارج. لذلك بدأت الحكومة أخيراً بدعم رجال الأعمال السعوديين الذين يشترون أو يستأجرون أراضي في بلدان أخرى. وقد تبنت دول عربية وآسيوية أخرى تعاني أيضاً مشاكل مائية (قطر والإمارات العربية المتحدة وكوريا الجنوبية والصين) خططاً مماثلة.

وقّع المستثمرون السعوديون عقوداً مع عدد من البلدان، بما فيها إثيوبيا والسودان وباكستان وأوكرانيا. وأكّد وزير الاستثمارات الباكستاني للمستثمرين أن بإمكانهم تصدير كامل المحصول متى يشاؤون، حتى لو كانت باكستان تعاني نقصاً في الطعام.

علاوة على ذلك، يريد آل سعود أن يعود المزارعون الصغار في المملكة العربية السعودية إلى زراعتهم التقليدية وغرس شجر النخيل المقاوم للجفاف، أو زراعة الخضر المربحة في بيوت بلاستيكية. يذكر آل سعود: {يلزم أن يشمل السعر ثمن مياه البحر المحلاة، لأنها البديل الوحيد للمياه الجوفية}. إضافة إلى ذلك، يؤكد آل سعود على ضرورة اعتماد أنظمة ري أكثر فاعلية، معتبراً أن هدفهم البعيد الأمد إعادة تدوير كل قطرة ماء.

تخطط الوزارة في المستقبل إلى مراقبة استهلاك الماء الفعلي في المزارع. يقول آل سعود: {إذا أدخلنا هذه المعطيات إلى نماذجنا الجديدة عن المياه الجوفية، نتمكن من استخدامها لتطوير استراتيجية مائية أكثر شمولية، ما يشكل أيضاً مثالاً تحتذي به الدول الأخرى}. وما إن انتهى آل سعود من كلامه حتى ارتد نحو الخلف وقد علت وجهه ابتسامة ملؤها الرضا.

{شريف عظيم}

يقدّم راندولف روش، عالم الجيولوجيا، نتائج بحثه أمام مجلس الشورى السعودي قريباً. يبدو مطارد المياه هذا متحمساً جداً لهذه الخطوة، يقول: {إنه لشرق عظيم! لكنه أيضاً مسؤولية كبرى. فإذا أخطأت بكلمة، فستراني على متن أول طائرة متوجهة إلى بلدي}.

ينوي روس أن يطوّر لمستشاري الملك نموذجاً إلكترونياً قادراً أن يحدد موقع المخزون المائي الجوفي الأقرب لأي نقطة في المملكة. كذلك يمكنه أن يظهر حجم هذا المخزون والموقع الأفضل لحفر بئر.

تقدّم مزرعة الفيصلية في جنوب الرياض لمحة عما ستكون عليه في المستقبل الزراعة في المملكة العربية السعودية. تمر الطريق المؤدية إلى المزرعة عبر الصحراء وتجتاز حقولاً ضخمة مليئة بالقمح تتوسطها مرشات دوارة.

لكن مالك مزرعة الفيصلية، حمد عبد العزيز الخالدي المعروف بالشيخ أبي نايف، تخلى عن زراعة القمح قبل سنوات وبات اليوم متخصصاً في التمور. لذلك تحوّل فجأة إلى مثال يُحتذى به.

دعانا الشيخ، الذي يطيل شاربيه ويرتدي زياً تقليدياً، إلى مكتبه. فجلب لنا أحد موظفيه قهوة بهيل، شاياً، وتمراً، فضلاً عن طاسة صغيرة من الماء لنغسل أطراف أصابعنا الدبقة. أخبرنا الشيخ وهو يبتسم: {النخيل شجر صبور، يستطيع التكيّف مع معظم المناخات}.

ازدهرت أعمال الشيخ وصار يملك اليوم 26 ألف شجرة نخيل. وفي زيارته الأخيرة إلى داسلدورف، تفحص التمور التي تُباع في المتاجر هناك. فوجدها باهظة وصغيرة ونوعيتها رديئة، على حد قوله. وتابع متحدثاً بسخرية وهو يهز رأسه: {كانت تموراً تونسية. تمورنا أفضل بكثير}.

back to top