خطوة إيجابية أخرى في مصلحة العراق

نشر في 05-03-2010
آخر تحديث 05-03-2010 | 00:01
انطلاقاً من نقاشات أجريتها مع فقهاء شيعة في العراق، يمكنني أن أستنتج أن أحداً من رجال الدين العراقيين لا يؤمن بأن "القائد الأعلى"، علي خامنئي، هو عالم دين له مواقف صادقة وسلطة دينية حقيقية.
 وول ستريت جورنال يجب أن نعذر نائب الرئيس الأميركي جو بايدن على جرأته حين أعلن، الشهر الماضي، في برنامج "لاري كينغ لايف" على قناة "سي إن إن"، أن العراق سيصبح "أحد أعظم إنجازات الإدارة الأميركية"، لكنه كان محقاً في النقطة الأهم التي ذكرها، أي أن حكومة تمثيلية توشك على القيام في بغداد.

مع موعد الانتخابات العامة في العراق الذي سيجري بعد غد، يجب أن نتقبل الأمور كما هي، فالمشروع الأميركي في العراق ساهم في توليد أحد الكيانات النادرة في الشرق الأوسط الكبير: حكومة تنشأ عن إجماع جموع المحكومين. يجب أن نثق بالعراقيين وبتاريخهم الخاص، ما يعني ترك العملية الانتخابية تجري عكس الخلفيات المعهودة المبنية على السلالات العربية والأنظمة الدكتاتورية، والنظام الثيوقراطي الإيراني المجاور الذي تعرض لمهزلة كبرى أثناء انتخاباته الوطنية.

في ظل أفضل الظروف، كان العراقيون سينسون الماضي ويتجنبون الحظر الذي فُرض على 500 مرشح تقريباً بتهمة ارتباطهم بحزب البعث، لكنها مسألة خاصة بالعراقيين أنفسهم، ومع انتهاء الوصاية الأميركية، لا يمكن أن تتحكم الولايات المتحدة بالحياة السياسية في العراق.

لا ننكر وجود بعض المرشحين المتورطين مع حزب البعث، لكن كان يجب أن يُسمَح لهم بالمشاركة في هذه الجولة الانتخابية، وكان من الحكمة السماح لعضو البرلمان السُنّي صالح المطلق بالمشاركة، فهو رجل اجتماعي يتمتع بموهبة سياسية فطرية، ومن الأفضل أن يشارك من داخل السلطة لا من خارجها.

لكن لم يسبق أن تمّ الدفاع عن سياسة إخراج أعضاء حزب البعث من الحكومة أو تفسيرها بشكلٍ وافٍ أمام الرأي العام الأميركي. مع مرور الوقت، سادت فكرة مفادها أن هذه السياسة تتعلق بالانتقام الطائفي: الحركة الشيعية الناشئة حديثاً ترد على السُنّة الظالمين.

يوجد بعض التطرف في قراءة سياسة إخراج أعضاء حزب البعث من الحكومة، ففي العراق الجديد الذي تحرر من كابوسه الطويل على يد السلطة الأميركية، انحصرت الخيارات بين سياسة إخراج أعضاء حزب البعث من الحكومة أو حصول مجزرة كبرى بحق جلَّادي الأمس، وارتكبت الوصاية الأميركية أخطاء كثيرة، لكنّ القرار الذي أصدره الحاكم بول بريمر، لمنع مشاركة حزب البعث، كان خطوة إيجابية بالنسبة إلى العراق الجديد، وبصورة عامة، لقد تجمّدت يد الانتقام، ولوحظ تراجع أعمال العنف التي انطلقت على يد من ارتكبوا أقسى أنواع الترهيب بحق العراقيين.

كذلك، يخطئ من يعتبر أن جمهورية شقيقة للنظام الثيوقراطي الإيراني بدأت تنشأ في بغداد، كما قال بعض المسؤولين الأميركيين. إنها إهانة بحق العراق والعراقيين، وبحق الأغلبية الشيعية الواسعة تحديداً.

تحضّر إيران خطة ضد العراق إذن، لكن علامَ تعتمد فيها؟ الحدود الطويلة، قرون من تصدير العقائد الدينية والأعمال التجارية، والتبادلات بين البلدين، لكن لا وجود لأي مشروع عراقي مرتقب ينوي تحويل العراق إلى منطقة خاضعة للدولة الفارسية، فالعراقيون لا يشبهون اللبنانيين الذين يبحثون عن وصاية خارجية ولا الفلسطينيين الذين يحتاجون إلى الأموال والأسلحة من الجهات المانحة الخارجية. العراقيون أقوياء ويملكون مواردهم المادية الخاصة، وفائضاً من النفط، ولديهم التصميم الكافي للحفاظ على سلامة بلدهم وسيادته.

في الواقع، تمثّل الحدود مع إيران فحوى التفكير العراقي، ويعرف العراقيون جارتهم الفارسية جيداً، فلا وجود في العراق لمعالم "الغزل" الإيراني الذي يحصل في وادي البقاع وبيروت أو في قطاع غزة، ويتميّز الشيعة في العراق بصرامتهم وعروبتهم مهما كانت الظروف.

وتوجد معالم جغرافية مقدسة خاصة بالطائفة الشيعية في العراق، ولا يولي رجال الدين في مدينة النجف المقدسة أو في الكاظمية في ضواحي بغداد، أي أهمية للتعاليم الدينية المنتشرة في مدينة قُم الإيرانية، وانطلاقاً من نقاشات أجريتها مع فقهاء شيعة في العراق، يمكنني أن أستنتج أن أحداً من رجال الدين العراقيين لا يؤمن بأن "القائد الأعلى"، علي خامنئي، هو عالم دين له مواقف صادقة وسلطة دينية حقيقية.

يشعر العراقيون من جميع الفئات بالقلق من إيران، فخلال انتخابات مجالس المحافظات، عام 2009، تعرّض المرشحون الموالون لإيران إلى هزيمة كبرى وحقق العراقيون الوطنيون الفوز.

يأمل العراقيون في أن ينجح بلدهم في تدبير أموره بنفسه، متحدياً بذلك المقالات المتشائمة التي تُكتب عن نظامهم الجديد في البلدان المجاورة والخارج، كما تسود ثقافة برلمانية شفافة في العراق، لذا يجب أن نكون فخورين بالأمور التي أرسيناها في ذلك البلد.

لندع مصر والدول العربية في شبه الجزيرة والخليج تتولى أمر التقليل من شأن النظام الجديد في العراق، فلم تتوان تلك الدول عن انتقاده بشتى الطرق لكنه صمد رغم كل شيء، فلم يعمّ السلام بعد في بغداد، لكن العراق الجديد، حتى في ظروفه الراهنة، يشكّل صرخة في وجه السلالات الوراثية والأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي.

ستحصل بعض التجاوزات في الانتخابات العراقية طبعاً، إذ لا مفر من شراء بعض الأصوات الانتخابية، لكن هل يحقّ للنظام المصري برئاسة حسني مبارك الذي يحتلّ سدة الحكم منذ ثلاثة عقود أن يطلق الأحكام على العراق؟ يرى الحكام في البلدان المجاورة للعراق أن هذا النظام العراقي غير شرعي ويعتبرونه خاضعاً للأميركيين، لكن على طول العالم العربي، تكثر الأنظمة التي تدور في فلك السلام الأميركي. يعمد الحكّام العرب الذين صمدوا في الحكم إلى تخويفنا من نشوء دولة شيعية في بغداد.

طوال عقود، لطالما استوعب صانعو السياسة الأميركية العقيدة السُنيّة الخاصة بالحكام العرب، لقد تسرّبت طريقة التفكير تلك إلى أفكار المسؤولين الأميركيين، ولم تتأثر كثيراً بالاعتداءات الإرهابية في 11 سبتمبر وبعقائد الجهاديين السُنّة. ولم تتخلَ الولايات المتحدة عن فكرة وجود التطرف الشيعي، أما الآن، فقد يصبح قيام دولة يحكمها الشيعة في بغداد جزءاً من البنية الأمنية الأميركية في المنطقة، لذا علت أصوات الحكام السُنّة المعارِضة لأمر مماثل.

وفقاً لمنطق الأطراف التي لم تدرك أهمية الحرب في العراق، اختلّ توازن القوى في المنطقة بسبب القضاء على نظام صدام حسين الذي كان يُعتبر درعاً في وجه الثيوقراطية الإيرانية.

لكن وجهة النظر تلك تحنّ إلى عصر ذهبي لم يحصل في الأساس. خلال الثمانينيات والتسعينيات، كان استبداد صدام حسين الذي أدار نظاماً يرتكز على الابتزاز والنهب في المنطقة هو ما دفع إيران إلى اختراق منطقة المتوسط وتشكيل "حزب الله" وتدريبه في بيروت ووادي البقاع، ودسّ عملائها في جنوب لبنان، على الحدود الشمالية مع إسرائيل. في تلك الفترة "الساحرة"، نشر الإيرانيون الفوضى في أنحاء المنطقة وعززوا الانقسام بين السُنّة والشيعة، ما أدى إلى تسميم حياة الإسلام.

توجد طريقة أفضل لموازاة قوة إيران في المنطقة: قيام نظام في بغداد يتمتع بشرعية المعايير الديمقراطية، ومن بين جميع الأمور التي قيلت عن العراق منذ أن أصبح البلد عبئاً على الولايات المتحدة، لا شيء يوازي التصريح الجريء الذي أدلى به أحد الدبلوماسيين بعيداً عن المماطلة والصياغة البلاغية. قال السفير الأميركي السابق رايان كروكر: "في النهاية، الوضع الذي نتركه وراءنا وكيف نتركه سيكون أكثر أهمية من الطريقة التي دخلنا فيها إلى البلاد".

يمكن أن نرى منذ الآن الخطوط العريضة التي ستسفر عن جهودنا: حكومة تمثيلية، ودولة وطنية ثنائية الأطراف يتقاسمها العرب والأكراد، وبلد لا يخضع لإرادة شخص واحد أو قبيلة حاكمة واحدة.

فؤاد عجمي Fouad ajami

* أستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكينز ومسؤول رفيع في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، ألّف كتاب "The Foreigner's Gift"

back to top