د. أنطوان الدويهي يؤرّخ لـ الطباعة في لبنان والمشرق ... ثقافة الحريّة هي المشعل
في إطار {بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009} أصدرت دار {صادر ناشرون} مولّفاً هامّاً عن {الطباعة في لبنان والمشرق} لمؤلّفه الدكتور أنطوان الدويهي.تميّز الكتاب باللغتين العربية والإنكليزيّة (ترجمة الأستاذ جميل غالب)، بالإضافة إلى صور منمّقة لمخطوطاتٍ ورسومٍ وكتب قديمة، ولوحاتٍ وصور فوتوغرافية قيّمة تبرز أهميّة الموضوع. وكان المؤلّف قد أصدر الكتاب في نسخة مستقلّة باللغة الفرنسية عن الدار نفسها.
تأتي هذه الدراسة المنهجيّة بعد صدور مؤلّفات ومقالات عدّة في هذا المضمار، أهمّها {تاريخ فن الطباعة في المشرق} للأب لويس شيخو، وكتاب {تاريخ الطباعة في الشرق العربي} لخليل صابات، لكنّها تمتاز عن سابقاتها بالتركيز على العلاقة بين فن الطباعة والعوامل الثقافية والاجتماعية التي رافقتها سلبًا أو إيجابًا.مقدّمةأعرب الدكتور أنطوان الدويهي في مقدّمته أنّ التاريخ الطباعيّ البحت لا يفي بالفائدة، و{الطباعة ليست ظاهرة معزولة عن البيئة الثقافية المجتمعية التي تنشأ فيها}. وظهور الطباعة في أوروبا لم يأتِ صدفةً، بل حصل نتيجة {الثورة الثقافية} الكبرى التي شهدتها أوروبا الغربية وأدّت إلى عصر النهضة. أسهمت الطباعة في القرن الخامس عشر في {أنسنة الثقافة}، فانتقلت من {المحور الإلهي والماورائي الى المحور البشري الزمني}، وهكذا ولد {هامش جديد يهتمّ بالسعادة الأرضية ويفسح في المجال للعقل النقدي، إلى جانب الهامش الديني المستمر. وقد انعكس هذا التحوّل على الفنون والآداب والمعارف وأنماط التفكير}. تكاثرت المطابع في أنحاء أوروبا فأعطت زخمًا هائلاً لحركة النهضة حتى اعتبرها بعض المؤرخين الحدّ الفاصل بين القرون الوسطى والأزمنة الحديثة. عاملان حاسمانشرّع المؤلّف في مقدّمته الأبواب لمعرفة كيفيّة انتقال الطباعة إلى المشرق وكيف تطوّرت فيه. وتلزم الإشارة إلى عاملين رئيسين أهّلا ظهور هذا الفن منذ البداية، وحدّدا مساره في المنطقة.فالعامل الأوّل هو التعامل والانفتاح في ما بين أوروبا والمجتمعات المشرقية انطلاقًا من القرن السادس عشر، ويكمن العامل الثاني في قدرة المجتمع المشرقي على التحديث والتطوير الاقتصادي، وشيوع الحرية الفكرية واحترامها، وانتشار حركة التعليم والوعي، والشعور بالحاجة الملحّة إلى مواكبة العصر. وهذه المعطيات تشكّل الدافع الرئيس الى إرساء الفن الطباعي.في تلك الحقبة التاريخيّة، توافر هذان العاملان في لبنان ومصر، ما جعلهما قاعدة الفن الطباعي في المنطقة على مدى عصور، وأثرت تجربتهما في هذا الميدان بأعمال تركت بصماتها اللغوية والثقافية والعلمية على مختلف البلدان. مهد الطباعةما يدعو إلى الدهشة أن مطبعة الشرق الأولى لم تؤسس في إحدى المدن الواقعة على ساحل البحر المتوسط، بل في قلب جبل ناءٍ، هو دير مار أنطونيوس قزحيا في وادي قاديشا في جبل لبنان.يختلف الباحثون في ظهور مطبعة دير قزحيا، أكان في العام 1585 أم 1610، وسواء ظهر الكتاب المطبوع الأوّل في مجمل القارة الآسيويّة، في هذا التاريخ أو ذاك، فلا شيء يتغيّر في جوهر الأمر. وما يُعرف عن كتاب {المزامير} أنه باللغتين العربية والسريانية، لكنه طبع بالحرف السرياني فحسب، وأن نسخة العام 1585 مفقودة ويوجد وصف دقيق ومفصّل لها وضعه الأسقف اسطفان عواد السمعاني بعد أن أمضى 37 عامًا في مكتبة الفاتيكان وتوفي في روما عام 1782. أمّا نسخة العام 1610 الأصلية فهي محفوظة في {المكتبة الوطنية} في باريس، وأخرى في جامعة الروح القدس في لبنان.يتوسّع الدويهي في شرحه ليبيّن ألا بدّ من الانتظار 121 عامًا بعد صدور الكتاب الأوّل في لبنان {حتى يظهر الكتاب المطبوع الأوّل في حلب عام 1706، و149 عامًا لقيام مطبعة الشوير في مكان آخر في جبل لبنان (الخنشارة)... و213 عامًا قبل أن يحضر بونابرت المطبعة الأولى الى مصر عام 1798، و245 عامًا قبل أن يصدر الكتاب الأوّل في القدس عام 1830، وهو على الأرجح التاريخ نفسه الذي صدر فيه أول كتاب مطبوع في بغداد. أما الكتاب الأول المطبوع في دمشق فقد صدر عن مطبعة الدوماني عام 1855، وعرفت صنعاء مطبعتها الأولى عام 1877، والحجاز مطبعته الأولى عام 1882، ولم تظهر الطباعة في الأردن إلا عام 1922، وفي الكويت عام 1947}. رفض عثمانيرفضت السلطنة العثمانية بأمر من السلطان بايزيد الثاني ودعم المراجع الدينية الإسلامية، تعاطي فن الطباعة على أرضها. وعلى رغم تأثير هذا المنع في إبعاد المسلمين عن هذا التطوّر، فقد جدّده السلطان سليم الأول عام 1515.يعزى تحريم الفنّ الجديد إلى سببين رئيسين، الأوّل خوف السلطة السياسية من مفاعيل انتشار الكتب والأفكار ما يؤدّي إلى الانفتاح وتنوّع سبل المعرفة على نحو يصعب ضبطه. والثاني رفض رجال الدين طباعة القرآن الكريم وجميع المؤلّفات الدينيّة الإسلاميّة. وقد أسهم النسّاخ الذين كانوا يعتاشون من نسخ هذه الكتب، في دعم هذا الرأي والترويج له خوفًا منهم على مهنتهم وعلى دورهم في السلطة.استمرّ رفض الطباعة إلى أن أفتى شيخ الإسلام عبد الله أفندي بجواز طبع كتب اللغة والتاريخ والطب وسائر المعارف والفنون في العام 1716، على أن تحظّر في مجال كتب الدين الإسلامي. واقتصرت الطباعة على الحرف العبري وعلى الكتب اليهوديّة، إلى أن أصدر الباب العالي فرمانًا عام 1727 يرخّص إنشاء مطبعة لإصدار الكتب الدينيّة بالحرف العربي.مواقع النهضةيحيل الدكتور أنطوان الدويهي أسباب النهضة إلى تراكم ثقافي ومعرفي وعمراني على مدى أكثر من قرنين ونصف القرن. وهو يتحدّد في أربعة مواقع: حلب، جبل لبنان، بيروت ووادي النيل.وقد انتظر المشرق 121 عامًا على ظهور الكتاب المطبوع الأوّل بالحرف السرياني ليعرف كتابه المطبوع الأوّل باللغة والحرف العربيين العام 1706 في حلب. ويمرّ 130 عامًا قبل أن تقوم في حلب مطبعة أخرى هي مطبعة {بلفنطي} التي أصدرت ديوان ابن الفارض عام 1841.يعزو المؤلّف هذه المرحلة إلى تألّق المدينة ثقافيًا واقتصاديًا والذي {رفد حركة النهضة الحديثة في الشرق بالعديد من أعلام اللغة والأدب والفكر والفن الطباعي. فبعدما تخرّج الأب بطرس التولادي من المعهد الماروني في روما أرسله البطريرك اسطفان الدويهي في العام 1685 الى حلب حيث طوّر المدرسة المارونيّة فتحوّلت الى مركز تعليمي ثقافي بارز درس فيه رجال لامعون، من أهمهم المطران جرمانوس فرحات رائد النهضة اللغوية العربية الحديثة، وعبد الله زاخر، ونقولا الصايغ، ومكرديج الكسيح وسواهم.مطبعة الشويرانشقّت طائفة الروم بين اتجاه مؤيّد لبزنطية وآخر مؤيد لروما، وانعكس هذا الأمر على الروم الكاثوليك في حلب فباتوا موضع اضطهاد، ما أجبر الكثيرين منهم على الهجرة إلى لبنان. وأدّى هذا الاندماج {الى تعزيز الحركة الأدبية والفكرية ودعم النشاط التجاري والاقتصادي في البلاد}. ولمّا كان الشّماس عبد الله الزاخر من مؤيدي الاتجاه الكاثوليكي في طائفة الروم، فلم يجد مفرًّا سوى جبل لبنان حيث لجأ الى دير مار يوحنا الشوير للروم الكاثوليك. ونشأت بينه وبين الأب بيار فروماج اليسوعي، أحد كبار المرسلين والمهتمين بفن الطباعة، علاقة قويّة انتهت إلى تأسيس مطبعة مار يوحنا الشوير. وفي العام 1734 صدر عن هذه المطبعة كتاب {ميزان الزمان} ، وهو أوّل كتاب مطبوع بالحرف العربي في لبنان. استمرّت مطبعة الشوير من العام 1743 الى العام 1899، ويرجح أن يكون عدد إصداراتها 70 كتابًا عربيًا.لم يكن هذا النهوض الثقافي وليد صدفة. فمنذ مطلع عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني عام 1591 الى سقوط الإمارة الشهابية عام 1842، تميّز الجبل اللبناني بالتسامح الديني والانفتاح على تجارب الحداثة والرغبة في مزيد من الاستقلالية داخل السلطنة العثمانية. وقد قام هذا التوجه على التحالف التاريخي الوثيق بين المعنيين والشهابيين من جهة، والكنيسة المارونية من جهة أخرى. {وهذا التحالف هو الذي قام عليه الكيان اللبناني في الأزمنة الحديثة وأولاه طابعه المميز حتى الفترة المعاصرة. وفي ظلّ هذا التحالف نمت روح الحريّة في جبل لبنان وتطوّرت الحركة التعليمية فيه.} حملة بونابرت ماذا حلّ بالمطابع التي أتى بها بونابرت خلال حملته على مصر؟ مجمل المعلومات تشير إلى أن الفرنسيّين فككوا مطابعهم ونقلوها معهم إلى فرنسا في العام 1801. إلا أنّ المؤرّخ فيليب طرازي ذكر أن هذه المطابع والحروف بقيت في مصر، ومنها انطلق محمد علي باشا بإنشاء مطبعة بولاق في ما بعد.وعلى رغم فشل أهداف هذه الحملة، فإنها إحدى أهمّ حلقات الاتصال بين أوروبا والمشرق، وصدمة ثقافيّة ومعرفيّة أيقظت بلاد النيل من سباتها. {وهكذا نجد ضمن حملة بونابرت مجموعة كبيرة من العلماء والمستشرقين والمهندسين والأطباء والجغرافيين والمؤرخين واللغويين والأدباء والفنانين واختصاصيي الطباعة تمثّلت فيهم الحداثة الأوروبية بمجمل مجالاتها}.أولى بونابرت عنايةً خاصة بإحضار الآلات الطباعية معه، فظهرت المطبعة للمرة الأولى في تاريخ مصر عام 1798، في الإسكندرية ثم في القاهرة. جهّز بونابرت مطابعه بحروف عربية وفرنسية ويونانيّة، ثمّ اقتنى حروفًا سريانية وقبطية وعبرية. وبدأت المطابع تعمل على متن السفن قبل النزول الى البرّ واحتلال الاسكندرية التي صدر فيها البيان الشهير الذي وجّهه نابوليون بالعربية إلى المصريين، وكان أوّل عمل مطبوع عرفته مصر في 1897. ومن أهمّ المطبوعات الصادرة آنذاك صحيفة {لو كورييه دو ليجيبت} وتحتوي على الأبحاث التي قام بها علماء الحملة وتنشر تقاريرهم. محمد علي باشاتراجعت حملة بونابرت بعدما تركت تأثيرًا قويًا على مصر، وعيّن العثمانيون محمد علي باشا واليًا عليها، فأرسل البعثات للتخصّص، وعمل على تكوين فئات الأطباء والمهندسين والضباط والإداريين وفنيي الطباعة وسواهم؟ إضافةً إلى إطلاقه حركة التعليم فأنشأ المدارس وأسّس المعاهد، منها مدرسة الطب في أبي زعبل، واهتمّ باللغات الأجنبية وبإطلاق حركة الترجمة الى العربية، وأنشأ في العام 1822 مطبعة بولاق الشهيرة.أسهمت مطبعة بولاق، مع مطابع بونابرت سابقًا، في إخراج حركة الطباعة في المشرق من تباطئها، فنشرت حوالى 243 كتابًا باللغات العربية والتركية والفارسية، فضلاً عن إصدار صحيفة {الوقائع} عام 1828، وهي أوّل جريدة رسمية في المشرق.والى جانب مطبعة بولاق التي أولاها محمد علي اهتمامًا خاصًا، ظهرت مطابع المدارس التي كانت تصدر الكتب العلمية، ومن أهمها مطبعة مدرسة الطب في أبي زعبل ومطبعة طرة ومطابع الدواوين. صعود بيروتلم يصبح فن الطباعة في عهد محمد علي باشا ظاهرة مجتمعيّة، واستمرت في صعود وهبوط وكان لا بدّ من انتظار قرنين ونصف القرن على ظهور كتاب قزحيا المطبوع الأول لتغدو الطباعة ظاهرة راسخة في بنية ثقافية واسعة لا سبيل إلى إيقافها.شاءت عوامل التاريخ والجغرافيا أن تكون بيروت رمز الحركة الطباعية إلى جانب موقع جبل لبنان ووادي النيل. فهذه البلدة التي لم يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف في مطلع القرن التاسع عشر، تحوّلت إلى مدينة تضمّ أكثر من 100 ألف نسمة آخر القرن، تحتوي على مدارس وجامعات ومطابع ودور صحافة وقنصليات وشركات وحدائق وبيوت أنيقة ما جعلها {الدرة النادرة في تاج السلطان}. يعدّد د. الدويهي أسباب هذا التحوّل الناتجة من التقاء العوامل التالية: {قرب بيروت الجغرافي من جبل لبنان الذي يحضنها، التعددية الدينية الفريدة في مجتمعنا أوائل القرن التاسع عشر، ضعف الإرث العثماني والمملوكي فيها... انتقال الطرق التجارية الكبرى من مدن الداخل الى المدن البحرية إثر تطوّر العلاقة بين أوروبا والمشرق، الإصلاحات التي أقرّها العثمانيون... الإنجازات المهمة التي حقّقها ابراهيم باشا لبيروت... إفادة بيروت المبكرة من تطور وسائل النقل البحري والبريّ، انتقال كتلة بشريّة كبرى من جبل لبنان الى بيروت إثر اضطرابات 1860، تكرّس الحكم الذاتي لجبل لبنان عام 1861 وقيام نظام المتصرفيّة الآمن والمتطوّر الذي أضحت بيروت عاصمته الاقتصادية والثقافية}... لبنان وطباعة النهضةشجّع التطوّر الذي آلت إليه مدينة بيروت المرسلين الأميركيين على تأسيس مطبعة فيها عام 1834، ودفع الآباء اليسوعيين أيضًا إلى إنشاء مطبعتهم، وسيكون لهاتين المطبعتين أعمق الأثر في إنتاج الكتاب العربي ونشره في المشرق والعالم في القرنين التاسع عشر والعشرين.وقد سبقت مطبعة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية هاتين المطبعتين فأصدرت كتابها الأول في بيروت عام 1751، لكنها ما لبثت أن توقّفت لمدّة قرن. وأُقيم خلال فترة وجيزة عدد كبير من المطابع أهمّها: {المطبعة السورية} لخليل الخوري، و{المطبعة الشرقية}، و{المطبعة العمومية}، وغيرها...وشملت المطابع الجبل اللبناني وساحله. ومع مطلع القرن العشرين انتعشت هذه الحركة فصدرت مئات الكتب الى جانب عدد كبير من الصحف. وبات الكتاب المدرسي يحظى باهتمام وافر.وترافقت هذه النهضة الطباعيّة مع إنشاء الجامعة الأميركية عام 1866، وجامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين عام 1874.ولا شك في {أن انطلاق حركة الصحافة على نطاق كبير، وانطلاق حركة الترجمة، والنهوض اللغوي والأدبي، ووضع القواميس والمعاجم، والنقاش الفكري الواسع، وظهور اليقظة العربية ضد التتريك، وبروز الفنون لا سيّما الرسم والهندسة المعمارية، وظهور المجلات والكتب العلمية الجديدة باللغة العربية، والتزايد الكبير لمدارس الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية وللمدارس الوطنية المسيحية منها والإسلامية في بيروت، قد دفعت الطباعة أشواطًا بعيدة الى الأمام}. وأنشأ اللبنانيون في مصر مجموعة من الصحف والمجلات ودور النشر الكبرى، نذكر منها {الأهرام} و{المقتطف} و{المقطم} و{الهلال} و{روز اليوسف}. وانطلقت في الأميركيتين حركة صحافية أدبية رفدها الأدب المهجري الذي حمل القسم الأكبر من التجديد والتحديث الخلاق، ومن أهمّ رموزه جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة، الذين سبقتهم كوكبة من الرواد الأول، ومن أهمهم بطرس البستاني وناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق وأديب اسحق ويعقوب صروف وفارس نمر... مع بداية القرن العشرين أخذت دور النشر تتطوّر، فبرزت {دار المكشوف} التي اهتمّت بالمجال الأدبي، و{دار صادر وريحاني} التي نشرت كتبًا قانونية وتاريخية وأدبية، و{دار العلم للملايين} التي جالت في مختلف العناوين، وكرّت السبحة الى أن غدت {مكتبة لبنان} أهم دار نشر للموسوعات والمعاجم في العالم.مصر وطباعة النهضةاحتضنت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأوّل من القرن العشرين حركة طبع ونشر بارزة اتّسعت معها دائرة التعليم، وازدهرت الصحافة، ونمت ميادين الفكر والأدب والترجمة والعلوم.واللافت أن عددًا كبيرًا من الخبراء الفنيين ورجال الأعمال الأوروبيين، إضافة إلى دور النهضويين اللبنانيين، قد أسهموا في إثراء هذه التجربة.وكانت مطبعة بولاق محور النشاط الطباعي طوال مرحلة النهضة المشرقية، وفي عام 1884 أصبح اسمها {المطبعة الأهلية}، واستمرت في أداء دورها في ظلّ الاحتلال البريطاني لمصر. وشهدت مصر في تلك الفترة قيام عشرات المطابع الأخرى برزت من بينها مطابع أجنبية في القاهرة والاسكندرية.وتسارعت حركة النشر العلمي بعد إنشاء {المعهد الفرنسي للآثار الشرقية} عام 1881، وعمّت المعرفة في مختلف الحقول بعد تأسيس {دار الهلال} عام 1892، و{دار المعارف} ومطبعة {المنار}. استفادت حركة النهضة المشرقية في مصر من النهج المتشدّد الذي مارسه السلطان عبد الرحمن الثاني، ما دفع بكثير من الأدباء والمفكرين وأهل الطباعة والصحافة الى الانتقال (من بيروت) الى القاهرة والاسكندرية، فاغتنت بهم تلك التجربة.ثقافة الحريةرائعة كتاب {الطباعة في لبنان والمشرق} تتمحور في خاتمته التي تتعدّى التأريخ لمراحل زمنية وتطوّرات مهنيّة كي تدخل في صلب المعطيات التي حوّلت لبنان منذ أكثر من نصف قرن {مركزًا أوحد لثقافة الحرية في المنطقة، وملجأ للمعارضين والمضطهدين السياسيين من البلدان كافة، وملاذًا للمفكرين والأدباء والمبدعين الآتين إليه من كل صوب، فأضحت بيروت {منارة الشرق} بجامعاتها وصحافتها وفكرها وآدابها وفنونها وطرق حياتها وازدهارها}.ما يميّز الطباعة في لبنان أنها غير مرتبطة بالسلطة، فهي ابنة القطاع الخاص والمبادرات الفردية، وهي بالتالي {موصولة بحركة المجتمع وليس بمزاج الحاكمين ومصالحهم. وفي ذلك سرّها وقوّتها وقدرتها على التكيف وتخطي المراحل الصعبة والمحن، ومواكبة الأزمنة الجديدة}. ولا ريب أن استمرارها وثراءها وتعدّدها ومنعتها أتى نتيجة ثقافة الحرية التي يتمتع بها المجتمع اللبناني.