في الرواية العربيّة لفخري صالح... الخروج من رحم الغيب
صدر حديثاً عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» وعن منشورات الاختلاف كتاب «في الرواية العربية الجديدة» للكاتب فخري صالح. ينصب اهتمام الكاتب على تأمل ظاهرة الرواية العربية الجديدة عبر قراءة عدد من نماذجها الأساسية، أي تلك النصوص الروائية التي ترد إلى ذهن القارئ لدى الحديث عن روايات عربية غيرت في الرؤية التي استقرت في أعمال نجيب محفوظ الروائية الكلاسيكية.تنتمي النصوص التي تناولها الكتاب إلى جيل الستينات بالأساس، وإن كان بعضها قد أنجزه الجيل الذي تعرض لهزيمة 1967 فكان أن تغيرت طريقة نظرته إلى الأشياء والعالم، ثم إلى دور الكتابة الروائية في تأمل واقع الهزيمة المدوية التي فضحت كل شيء بما في ذلك طرائق الكتابة وأساليبها ونظرتها الواثقة إلى العالم.
يوضح الكاتب أن العودة إلى جيل الستينات والسبعينات لا تعني التسليم بخروج هذا الجيل من رحم الغيب وكونه أحدث قطيعة مع الأجيال التي سبقته إلى الوجود والكتابة. ويدرس المؤلف في الفصول الأولى من الكتاب اثنين ممن بدأوا الكتابة الروائية في الأربعينات ونهاية الخمسينات، وهما لا ينتميان في الرؤية وأسلوب الكتابة الروائية إلى جيل الستينات، لكنهما يمثلان إضافة إلى نجيب محفوظ نفسه، إرهاصات الرواية العربية الجديدة التاريخية. ويحاول المؤلف أن يبين من خلال القراءة النصية كيف أن «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح و»البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا تمهدان لأفق من الكتابة الروائية العربية تحقق في أعمال صنع الله وجمال الغيطاني وإلياس خوري وابراهيم الكوني وسليم بركات وأعمال غيرهم.في هذا السياق من التفكير بتطور الكتابة العربية يكتب فخري صالح كتابه ما بين عامي 1984 و1998 وهو مهجوس بسؤال أساسي: كيف استطاع جيل الستينات، والجيل الذي جاء بعده، أن ينتهك جسد الرواية الكلاسيكية وينقل الرواية العربية من أفق اليقين المستقر الهانئ إلى أفق الشك حتى بعملية الكتابة نفسها؟ وللإجابة عن السؤال يختار الكاتب عدداً من روايات يعتقد أنها نصوص أساسية في منجز جيل الستينات الروائي والجيل الذي تلاه، ووضعت هذه النصوص قبالة النص المحفوظي الذي يبدو حاضراً في الذهن لدى إنجاز كل قراءة على حدة رغم غيابه من أفق التحليل وتواريه في ثنايا التفكير بالرواية العربية المكتوبة وبعده. وقد اختار المؤلف أيضاً «رامة والتنين» لإدوار خراط (ينتمي إلى جيل الستينات فكراً لا عمراً)، و»اللجنة» لصنع الله ابراهيم، و{الجيل الصغير» لإلياس الخوري، و»فقهاء الظلام» لسليم بركات، و{نزيف الحجر» و{التبر» لإبراهيم الكوني لجلاء طبيعة الانتهاكات الشكلية والتغير على صعيد رؤية العالم في ما يسميه «الرواية العربية الجديدة».وإضافة إلى هذه القراءات النصية لأعمال روائية بعينها، يضيف الكاتب قراءتين مسحيتين لأعمال إميل حبيي الروائية وبعض أعمال جمال الغيطاني بغرض التعرّف إلى أشكال استخدام السرد التراثي، والمادة التراثية في الرواية العربية الجديدة. ويضمن فخري خاتمة الكتاب قراءة سجالية لكتابي الخراط «الحساسية الجديدة» و»الكتابة عبر النوعية» اللذين ينتميان إلى أفق الأسئلة التي يسألها هذا الكتاب ويبحث لها عن إجابات لم تكن شافية على أية حال.انتساب يعتبر صالح أن تعبير «الرواية العربية الجديدة» يثير إشكالية إصطلاحية تتعلق باستعارة هذا المصطلح من بيئة ثقافية أخرى، ما يوحي بانتساب ما يسمى بـ{الرواية العربية الجديدة» إلى الرواية الفرنسية الجديدة التي ترجم بعض من نصوصها إلى العربية خلال الستينات. ويؤكد الكاتب في هذا السياق أن التقاطع في التسمية لا يلحق ما يسمى بـ{الرواية العربية الجديدة» بنظيرتها الأوروبية، لكنه يقيم تشابكاً على صعيد الرغبة في انتهاك الشكل والتعبير بصورة جديدة عن العالم، أي بصورة مختلفة عن تلك الطريقة التي عبرت بها «الرواية الواقعية» عن العالم. ويتابع فخري صالح بأنه فيما انتهكت الرواية العربية انتهك شكل الرواية الغربية، بتنويعاتها الواقعية والوجودية وصيغتها الكلاسيكية أيضاً، عبر إلغاء حضور الشخصية الروائية أو إلغاء الحركة في الزمان أو جعل المكان الشخصية الفاعلة في النص الروائي، أما الرواية العربية الجديدة فحملت الرغبة ذاتها لانتهاك شكل ثابت تمثل، في أوج تشابكه وتعقده، في عمل نجيب محفوظ، وبصورة خاصة في ثلاثيته. نزعةيضيف المؤلف أن الرواية العربية الجديدة أخذت بعض ملامح الرواية الفرنسية الجديدة، لكنها لا تنتسب إلى الأفق نفسه. فإذا كنا نلمح في روايات آلان روب غرييه، انتساباً في طريقة النظرة إلى العالم، إلى الفلسفة الوضعية الأوروبية، أو محاكاة ساخرة، بصورة غير مباشرة، لهذه الفلسفة، فإن صنع الله ابراهيم وإدوار الخراط والياس خوري ينتسبون إلى نظرة للعالم تكاد تكون مغايرة تماماً. ففي الرواية العربية لا توجد نزعة تشييئية إلا بمقدار ما تخدم هذه النزعة الرغبة في التعبير عن عالم مفتت لا يقين فيه. وبالنظر على الروايات التي أنتجها الكتاب المنتمون إلى ما يسمى بالرواية العربية الجديدة، تؤكد أن النزعة التشييئية في هذه الروايات ذات طابع توظيفي وليست كلية وصفية. ويستدرك الكاتب ليعتبر أن ثمة استفادة بعيدة من عالم الشيئية، لكن هذه الاستفادة لا تجعل من الرواية العربية الجديدة محاكاة للرواية الفرنسية الجديدة لأن غرض الرواية العربية الجديدة وصف تشوش الرؤية والقبض على تماسك الأشياء وهي تنهار، بينما يتلخص غرض الرواية الفرنسية الجديدة في وصف الأحاسيس الإنسانية وقد تشيأت، وفي وصف غياب الإنسان واغترابه في منظومة الحضارة الرأسمالية الغربية المعاصرة. يشير صالح إلى أن صفة اللايقينية، مضافة إلى صيغة الانتهاك الشكلي، تمثل سمة أساسية من سمات الرواية العربية الجديدة. وحيث يدخل اليقين والاعتقاد بالقدرة على وصف العالم يسقط نعت «الجديدة» عن الرواية، وتدخل هذه الرواية في سياق النص المحفوظي، ممثلاً في الثلاثية وبداية القاهرة الجديدة ونهايتها. وتتحقق نزعة اللايقين عبر طرائق السرد، وأشكال الرواة، وصيغة السرد المتشككة، واللغة غير القاطعة، والأحكام النسبية التي تشكل أساس نظرات الرواة في العالم، ويضرب المؤلف مثلاً على ذلك في أعمال الخراط الروائي عموماً، وروايته «رامة والتنين» خصوصاً، معتبراً أنها تمثل الرواية الجديدة خير تمثيل. فاليقين فيها غائب، والراوي يتساءل دائماً عن إمكان حدوث ما حدث، فالحدث غائم لذلك يتشكك الراوي بحدوثه ويتشكك بما رواه هو عن الحدث.الشكيشدد المؤلف على أن الرواية العربية الجديدة ليست متجانسة على الصعيد الشكي، بل تضم طيفاً كاملاً من الطموحات الشكلية والتجديد في البناء الذي يطاول طريقة تقديم الشخصيات وعلاقة الزمان بالمكان وأشكال الرواة وزوايا النظر المعروضة في الرواية وتدخلات الكاتب وشروحاته التي تبغي كسر وهم مطابقة الرواية للواقع. وبهذا المعنى فإن البحث عن قواسم مشتركة بين النصوص التي نسميها نصوصاً روائية عربية جديدة يقع في دائرة «النظرة إلى العالم» أو «رؤية العالم»، ومن ثم فإن العناصر الشكلية لا توفر شخصية متميزة لهذه النصوص عن غيرها من الروايات العربية المكتوبة على غرار كلاسيكي. فما يميزها ويكسبها انشباكاً وتضافراً وانضواءً تحت راية التقسيم نفسه تأكيدها أن العالم نفسه لم يعد متجانساً،.