غموض
القصيدة ...
الواقع والمتخيَّل

نشر في 13-09-2009
آخر تحديث 13-09-2009 | 00:01
 آدم يوسف شهدت القصيدة العربية منذ أوائل الستينيات نقلة كبيرة في ما يتعلق بالغموض والمجاز اللغوي والصورة الشعرية المكثفة. يلجأ شعراء الستينيات إلى هذه التقنية -ربما- هروباً من شبهة المباشرة في الطرح الشعري، وربما أرادوا الاستعانة بهذه الكثافة لتعويض أوزان الخليل التي ودّعوها إلى غير رجعة. بعض هؤلاء الشعراء لا يكتب قصيدة التفعيلة بعُرفها وأدواتها التي اصطلح عليها شعراء ونقاد تلك المرحلة، والمرحلة السابقة عليها كما هو الحال لدى نازك الملائكة، التي تضع قيوداً صارمة جداً في ما يتعلق بقصيدة التفعيلة. يهرب بعض الشعراء إلى ما يسمونه الإيقاع الداخلي. ومهما يكن من أمر فإن مسألة الغموض الذي يلف القصيدة المعاصرة ناتج عن ارتباكات الوزن، والرغبة العارمة في الإخفاء. إخفاء الحقيقة الكامنة وراء القصيدة الواقع منها والمتخيَّل.

الشاعر المصري محمد عفيفي مطر هو أحد أبرز الشعراء الذين تتمثل فيهم حقبة الستينيات، وهو كذلك أحد الأوائل الذين أسسوا لقصيدة الكثافة والصورة المجازية المركَّبة، مما جعل شعره يتسم بالغموض الشديد، الأمر الذي ينفيه مطر ذاته، مشيراً إلى أن القصيدة في صورتها الراهنة لا بد أن تنتقل إلى هذا الشكل الكتابي حتى تتخلص من إرث الماضي، وهو يرى أن للشعر قُرَّاءه الخاصين الذين يتواءمون مع مفرداته وتصويراته. حظي مطر بشهرة عربية، وأصبح نسيج وحده، بل إن له تلاميذه ومريديه. يقول مطر في قصيدة «حجر الأجيال»:

«ياحجراً أعرفه منذ كنت صغيراً ألهو/ فوق العتبة/ وأدق عليك نواة المشمش والخروب/ في المدخل.. / كنت تنام عميقاً../ لا توقظك الشمس ولا هرولة الأقدام».

أمر الغموض هذا ربما ينطبق أيضاً على الشاعر البحريني قاسم حداد، الذي يكاد يكون هو الآخر مدرسة شعرية، وله تلاميذه ومريدوه. يعترف حداد بأنه يلجأ إلى الغموض هرباً من المواجهة، فيقول: «لو فهموا المعنى لأهدروا دمي». أما الشاعر السعودي محمد الحرز فإنه يعترف صراحة بأن لجوءه إلى اللغة المُحمّلة بالمجازات المكثفة، يأتي رغبة في التواري، أو إخفاء اختلاجات النفس على الرغم من إقراره بأن هذه الصورة الشعرية المكثفة تُحمّل النص فوق طاقته يقول: «أتردد كثيراً عندما أكتب الشعر بصورة أكثر تخلصاً من هذه الكثافة المجازية، أجد نفسي متعرياً تماماً، وأشعر بخوف ورهبة شديدة من هذا التخلص، لا أعلم، هل لأنني تربيت على أن أتكلم بالسر ولا أفصح عن كل ما يجوس في خاطري».

هذا التكتم وخشية الإفصاح طبيعة عامة تمتاز بها الشخصية العربية، وسهل أن نُرجع ذلك إلى سطوة البنية الاجتماعية التي ترفض كل ما هو خارج عليها. ربما يكون هذا الغموض ناجماً كذلك عن العنف السياسي والسلطة المستبدة التي تجعل الشاعر يخفي أكثر مما يظهر.

وبالطبع هذه الحالة الشعرية تقلق كثيراً الفضوليين الذين يبحثون في ما وراء الكلمات عن حياة خاصة للشاعر، أو موقف سياسي، أو حتى قصة حب عابرة. قد لا نكون دقيقين حين نضع الشاعر محمد الحرز في درجة واحدة من حيث الخصائص الفنية للقصيدة، إذا ما قارناه بمحمد عفيفي مطر، أو قاسم حداد، أو حتى مواطنه محمد الثبيتي، فالشعراء الثلاثة الذين ذكرتهم تتكئ قصائدهم على المجاز والكثافة إلى حد يفوق محمد الحرز. الذي بدا لي -بحسب ما اطلعت على نصوص له من ديوانَي «أخف من الريش... أعمق من الألم» و«أسمال لا تتذكر دم الفريسة»- أنه يعتمد على سردية القصيدة، وتقنية المفارقة في صدمة الخاتمة، وهي تقنية حديثة تصنع للقصيدة وهجاً وجمالية خاصة، يقول:

«لا يكفي أن تزيحي خصلة الشعر عن الجبين لكي يتذكر الضوء ماضيه، لون البشرة عاجز عن التذكر أيضاً. أيتها الجميلة النائمة أيقظي السماء لقد امتلأت السلة بالفاكهة».

محمد الحرز يحيل الحالة الشعرية كلها إلى قصة سردية موازية، ومفارقة مدهشة، يصعب عليك أن تتبع أو ترصد المنبع الأول الدافع إلى كتابة القصيدة، ويصعب كذلك أن تصطاد شعراً مباشراً أو شعوراً واضحاً.

back to top