أسطورة طرزان... السِّحر الآفل

نشر في 12-07-2009 | 00:00
آخر تحديث 12-07-2009 | 00:00
يستكشف متحف «كي برانلي» في باريس تاريخ ظاهرة بدأت بالمطبوعات المنشورة وانتشرت عبر شاشات السينما والأدب والرسوم المتحركة لتصير أسطورة تاريخها المعاصر الشعبيّة: إنها شخصية «طرزان» التي بدأت مع إدغار رايس بوروغز في عام 1912، وما لبثت أن انطلقت في مسيرة طويلة تلوّنت بألف لون واتخذت أسماء وصوراً كثيرة: «طرزان أو روسو عند وازيري» عنوان المعرض الذي انطلق في 16 يونيو (حزيران) ويستمر حتى 27 سبتمبر (أيلول) المقبل.

الزوّار مدعوون طوال الصيف إلى استكشاف هذه الظاهرة المحمّلة بالذكريات الطفولية، وكل ما تعيده الى الأذهان حول القارة الأفريقية التي جعل المؤلف إدغار رايس بوروغز بطله ينطلق منها.

وإذا كانت «قراءة» طرزان لا تكفي لتعزيز معلوماتنا حول أفريقيا، يبقى أن إطار هذه القصة يكشف بعض ملامح القارة السوداء مع سكانها وطبيعتها وتقاليدها خلال مطلع القرن العشرين: أرض المغامرات التي شهدت الاستعمار.

أشرف عالم السلالات روجيه بولاي على المعرض من ناحية قدرته على تكريس صورة أفريقيا (بنظر الغرب) التي ساهمت أسطورة طرزان إلى جانب أساطير أخرى في تشكيلها. ومن المؤكد أن السينما ساهمت بالدرجة الأولى في انتشار شخصية طرزان عبر نحو 40 فيلماً تميّز عدد منها مثل «طرزان النمر» لهنري ماكري (1929) مع الممثل فرانك ميريل، أما ولادة الشخصية مع بوروغز المولود عام 1875 في شيكاغو فكانت محض صدفة مدعمة بقراءات لمؤلفات داروين ولقصص ستانلي وكيبلينغ وبتأثيرات من «ريموس ورومولوس»، كتب عن «طفل يتمتع ببنية قوية وراثياً وبإرث ثقافي وبخلفيات عائلية نبيلة، وجد نفسه متروكاً في غابات أفريقيا ليواجه مصيره وحده».

شخصية باهتة

طرزان الذي كان رفيق طفولتنا تبدو اليوم شخصيته باهته، ننظر إليه وكأنه يأتي من زمن غابر، لم يعد يتابعه كثر، الأرجح أنه استهلك ولم يعد يتضمن جديداً، أو أصبح من الماضي يؤرخ لمرحلة مهمة في تاريخ التلفزيون والسينما وكتب الأطفال، بل يؤرخ لصعود زمن الصورة، يذكرنا بظاهرة «هاري بوتر» التي حصدت اهتمام الملايين في العالم، فهل يكون مآلها مستقبلاً مآل شخصية طرزان؟ فتنتهي متحفية، ربما مثل فقاعة في زمن الاستهلاك والصورة تجعل الجميع يهتم بها من دون أن يكون مهتماً بالكتب أو القراءة.

اللافت أن شخصيات مثل ظرزان وهاري بوتر وسوبرمان تصبح أشهر من مخترعها أو صاحبها، وهي باتت أشبه بمصطلحات اجتماعية أو ثقافية، فالطرازانية مفردة نستعملها في يومياتنا مثل كلمة «عنترية» (نسبة إلى عنترة بن شداد)، وشخصية طرزان في شهرتها تعادل دون كيشوت التي ابتكرها ثرفانتس والمسخ فرانكشتاين لماري شيللي وشهرزاد وشهريار ولوليتا لفلاديمير ناباكوف والرجل العنكبوت والرجل الوطواط في السينما. إنها الكتب التي يمكن لنا وصفها بأنها أكثر ذكاءً من أصحابها. طبعاً، كل شخصية تختلف عن الأخرى، فلا يمكننا وضع شخصية طرزان الكروتنية والعنصرية مع لوليتا النفسيّة والإغرائية أو دون كيشوت الأدبية مع الرجل العنكبوت.

طرزان رفيق طفلوتنا، ربما نستمتع بمشاهدته ولا نعرف سره، بل لم نكن نعلم أنه من نسج خيال أحد الروائيين وأنه تخطّى صاحبه، لنحبه في الصورة أكثر من الكلمة. ولدت شخصية طرزان، وتعني الرجل ذو الجلد الأبيض، في عام 1912، حين نشر بوروز أول مغامرة طرزانية بعنوان «طرزان القردة» مع العنوان الثانوي «حكاية غرام في الأدغال». آنذاك كان بوروز في السابعة والثلاثين، وكان قد عرف سابقاً بغزارة انتاجه، لا سيما في مجال كتابة روايات الخيال العلمي.

علامة عامة

هكذا، تحوّل طرزان إلى علامة عامة تُنسج حولها الروايات، وكل يزوّرها بحسب مصلحته العامة سواء السياسية أو التجارية أو التلفزيونية. إذا كانت كتب طرزان ومغامراته قد زوّرت كثيراً في بلدان كثيرة، فإنها زُوّرت بشدّة في بعض البلدان العربية وفي «إسرائيل»... اذ استخدمت قصة طرزان في الصراع العربي - الإسرائيلي منذ الخمسينات وانتشر نوع من الولع بقصص طرزان في إسرائيل وحوّرت القصة الرئيسة ونشأت سلسلة مختلفة يسافر فيها طرزان إلى كواكب أخرى ليمنع هجوم سكان الفضاء الخارجي على الأرض، ويعود عبر الزمن أحياناً ليصارع فرسان القرون الوسطى.

في بعض القصص يساعد «البطل» المهاجرين اليهود غير الشرعيين بدخول فلسطين أثناء الانتداب البريطاني، لذلك يسجنه الإنكليز، ويفك حصاراً فرضه الجيش المصري في السويس ويقتل العديد من الجنود المصريين... من جانب آخر صدرت في سوريا ومصر قصص مشابهة وسلسلة تحكي عن طرزان مختلف عن الطرزان الإسرائيلي فقد كان متعاطفاً مع القضية الفلسطينية ويحارب الصهيونية. وهذا اشارة إلى واقع تزوير الشخصيات الجماهيرية ومحاولة توظيفها في غير محلها، فكل إيديولوجيا تحاول توظيف «الرمز» الجماهيري أو الشعبوي في الدعاية لثقافتها أو سياستها.

ظهرت أول سلسلة عربية لطرزان في لبنان في الثلاثينات، وفي دمشق صدرت أكثر من 20 سلسلة في هذا المجال لكمال ربقي الذي كان مذيعاً في «صوت دمشق»، وحققت السلسلة «المضادة للطرزان الإسرائيلي» نجاحاً وانتشاراً واسعين في الدول العربية من مصر إلى اليمن، ومن المفارقات التاريخية أن المؤلف كمال أعدمته السلطات السورية لاحقاً بتهمة التعاطف مع إسرائيل. وكان إريك شيفيتز، في كتابه «شعريات الإمبريالية» (1991) خصّ شخصية طرزان بالفصل الاستهلالي، معتبراً أنّ حكايته، كما رواها إدغار رايس بوروز في الكتاب الأوّل الصادر عام 1912، تزامنت مع شروع الولايات المتحدة في البحث عن حدود جديدة ومغامرات توسعية خارجية. وكانت الحكاية تعيد التشديد على «المهامّ الحضارية» التي رأى الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت أنها تقع على عاتق «العالم المتحضر»: «لا يمكن توطيد السلام، ما لم تنجح الأمم المتحضرة في التوسع داخل جغرافية الأمم البربرية؛ وتحرير الشعوب من نير البربرية هو واجب أساسي، لا يمكن تحقيقه من دون هزيمة البربرية ذاتها». وشيفيتز لا يتردد في ترجمة «متحضر» إلى أوروبي، غربي، أبيض؛ مقابل ترجمة «بربري» إلى كلّ، وأي، شعب خارج المقولة الأولى.

حي بن يقظان

يعتقد معظم النقاد العرب أن ثمة فلسفة عميقة في قصة حي بن يقظان أعمق بكثير مما تناولته أفلام شركة «والت ديزني» وهوليوود عن طرزان، فيرى البعض أن ابن طفيل في كتابه «حي بن يقظان» يلخص تأريخ تطور البشرية، من الإنسان البدائي في الكهوف والغابات الذي بدأ يراقب ويشاهد ويتعلم ويحاكي ويكتشف حتى وصوله إلى الزراعة واختراع الآلة، وحظي الكتاب باهتمام فلاسفة غربيين كثيرين. ويرى المخرج ثامر الزيدي أن قصصاً كثيرة من أفلام الرسوم المتحركة التي أنتجتها «ديزني» أقتبست عن قصة حي بن يقظان المترجمة إلى العبرية في عام 1341، ثم إلى عدد من اللغات الأوروبية: اللاتينية (1671)، الهولندية (1672)، الإنكليزية (1674)، والألمانية (1726 و1783)، وفي عام 1900 ظهرت أول ترجمة فرنسية وتسربت خيوط القصة الفلسفية إلى أدباء الغرب أمثال الكاتب الإنكليزي دانيال ديفو في روايته «روبنسون كروزو».

وعلى رغم النجاح الساحق الذي حققته الروايات الأولى والأفلام الأولى في سلسلة طرزان، إلا أن مستوى الأعمال اللاحقة لم يرتقِ إلى مستوى البدايات وفي نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. نلاحظ منذ سنوات أن حضور طرزان تقلص إلى حد كبير، وأن هذه الشخصية لم تكن من بين المستفيدين الكبار من فورة البرامج التلفزيونية، ولا من ازدهار أفلام المغامرات. طرزان ربما يكون مثل سلسلة أفلام رامبو وروكي، أو أفلام جان كلود فان دام... السحر الآفل مصير طرزان الذي استغنى عنه حتى أكثر الأطفال سذاجة.

back to top