حكايات الغدر والموت والدم مصرع سميرة موسى... اغتيال مشروع عربي!
في 19 أغسطس (آب) من عام 1952 نشرت جريدة «المصري» القاهرية خبراً صغيراً في صفحتها الأخيرة جاء فيه: «أعلن المتحدث باسم السفارة المصرية في واشنطن أن الآنسة سميرة موسى، الطالبة المصرية التي تتلقى العلم في الولايات المتحدة، قتلت في حادث سيارة بعد أن أتمت دراستها في جامعة أدكردج الأميركية».في الأسبوع نفسه أيضاً كتبت مجلة «روز اليوسف»: «لا يزال حادث وفاة الدكتورة سميرة موسى محاطاً بالغموض، ومما يذكر أن الفقيدة كانت أول مصرية حصلت على الدكتوراه في بحوث الإشعاعات الذرية، وكانت قد أرسلت قبل مصرعها بأيام تقول إنها تستعد للقيام بدراسات في غاية الأهمية بعد أن سمح لها أخيراً بزيارة المعامل السرية لبحوث الذرة في أميركا».
اكتنف حادث وفاة الطالبة غموضاً رهيباً، لم يتم الكشف عنه حتى يومنا هذا، وجاء حادث الاغتيال عقب دعوة وجهت إليها من خلال برنامج فولبرايت لزيارة الولايات المتحدة الأميركية عام 1951، إذ أتيحت أمامها الفرصة لزيارة المعامل النووية في جامعة سان لويس في ولاية ميسوري الأميركية لأجل إجراء أبحاث في معاملها، وهناك اطلعت على آخر ما توصل إليه الأميركيون في مجال الأبحاث النووية، وكانت علوم الذرة آنذاك سر الأسرار.كانت أميركا مشغولة بقضية نووية شهيرة، فقد اكتشفت مخابراتها أن جهاز المخابرات السوفياتي K.G.B تمكن من اختراق معاملها وحصل علماؤه على سر الانشطار النووي، ثم تمكنوا من تصنيع القنبلة النووية، وكان من نقل هذه الأسرار إلى السوفيات المدعو جوليوس روزنبرج وزوجته، وتم إعدامهما على الكرسي الكهربائي.وقبل عودتها إلى مصر بأيام تلقت سميرة دعوة لزيارة مفاعل نووي في ضواحي ولاية كاليفورنيا في 15 أغسطس، وفي الطريق الجبلي الوعر إلى كاليفورنيا ظهرت فجأة سيارة نقل اعترضت طريق السيارة التي تستقلها، واصطدمت بها بقوة ملقية بها في واد عميق على ارتفاع 400 متر فوق سطح البحر، وقفز السائق الهندي من السيارة قبل الاصطدام بثوان، ولم يعثر له على أثر إلى الآن، وبعد عمل التحريات تبين أن السائق كان يحمل اسماً مستعاراً، وأن إدارة المفاعل لم تبعث أحداً لاصطحابها، وانتهت بذلك حياة عالمة عظيمة كانت لتغير الكثير في مجال الذرة.كانت الدكتورة سميرة قبل حادث اغتيالها تلقت عروضاً كثيرة كي تظل في أميركا، لكن كان ردهاً موجزاً وواضحاً: «ينتظرني وطني مصر الغالي»، وفي آخر رسالة لها كانت تقول: «استطعت أن أزور المعامل الذرية في أميركا وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان، وسأخدم قضية السلام»، إذ كانت تنوي إنشاء معمل خاص في منطقة الهرم، وكانت تكتب لوالدها في رسائلها: «لو كان في مصر معمل مثل المعامل الموجودة هنا كنت أستطيع أن أعمل أشياء كثيرة»، وعلق مستشار مصر الثقافي في واشنطن آنذاك محمد الزيات الذي أصبح وزيراً للخارجية بعد ذلك أن سميرة كانت تعني بـ{حاجات كثيرة» «قدرتها على اختراع جهاز لتفتيت المعادن الرخيصة إلى ذرات عن طريق التوصيل الحراري للغازات، ثم تصنيع قنبلة ذرية رخيصة التكاليف».الميلاد والنشأةفتاة ريفية كانت مسكونة بعشق الوطن. تردد اسمها على مسامع البعض منا، وربما وقع نظرنا صدفة على صورتها في إحدى الصحف القديمة، لكن من المؤكد أنها مجهولة تماماً بالنسبة إلى الأجيال الجديدة، إنها عالمة الذرة المصرية النابغة سميرة موسى التي شهد لنبوغها وعبقريتها كبار علماء زمنها.ولدت سميرة في 3 مارس (أذار) من عام 1917 لتنضم إلى ست شقيقات وشقيقين لأسرة ريفية متوسطة في قرية سنبو الكبرى التابعة لمركز زفتى في محافظة الغربية. كان لوالدها مكانة اجتماعية مرموقة بين أبناء قريته، وكان منزله بمثابة مجلس يلتقي فيه أهالي القرية ليتناقشوا في الأمور السياسية والاجتماعية.بعد مولدها بسنتين انفجرت ثورة 1919 في كل مصر. تفتحت سميرة وأبناء جيلها على المد الوطني المُطالب بالحرية والاستقلال، فكان طلعت حرب يؤسس مصرفاً يحمل اسم مصر، وكان الفنان محمود مختار يصنع تمثالاً يحمل اسم نهضة مصر، ثم قامت الجامعة الأهلية، وظهرت هدى شعراوي وتأسس معها الاتحاد النسائي المصري، وظهرت مجموعة من الرائدات المصريات اللاتي ناضلن لأجل حق المرأة في التعليم، ولا شك في أنه في ظل هذا المناخ لم يكن صعباً على سميرة بدء مشوارها التعليمي كغيرها من بنات القرية.ومع ظهور حركات تحرير المرأة ومنحها حقوقاً متساوية مع الرجل نالت سميرة فرصتها في التعليم، وحرص والدها على أن تتلقى ابنته العلم منذ الصغر متحدياً بذلك التقاليد السائدة في المجتمع آنذاك.في السادسة من عمرها، التحقت سميرة بالمدرسة الأولية في سنبو، وكان الهدف من تعليمها فك الخط. آنذاك تمكنت من حفظ القرآن الكريم، وعندما بلغت العاشرة توفي الزعيم سعد زغلول في أغسطس (آب) عام 1927، وعمّ الحزن أرجاء مصر، وجلس أهل بلدتها في انتظار وصول الصحف في قطار المساء، وعندما وصلت لم يجدوا من يقرأها سوى سميرة، وفي اليوم التالي طلب منها المدرس قراءة الصحيفة على زملائها في طابور الصباح، فإذا بها تقول له إنها قرأتها بالأمس وحفظتها، وأخذت تعيد على زملائها كل ما قرأته من قصائد ومقالات في رثاء الزعيم سعد زغلول.ذهل المدرس وذهب إلى أبيها وطلب منه أن يذهب بابنته إلى القاهرة لتكمل تعليمها هناك، وبعد انتقالها مع والدها إلى القاهرة، التحقت بمدرسة «قصر الشوق» الابتدائية ثم «بنات الأشراف» الثانوية الخاصة، التي قامت على تأسيسها وإدارتها نبوية موسى الناشطة النسائية السياسية المعروفة، وافتتح والدها نزلاً في حي الحسين، ثم فندق وادي النيل في العتبة.في سابقة هي الأولى من نوعها، ألفت سميرة موسى كتاباً في الجبر في عام ١٩٣٣ وكانت في السادسة عشرة من عمرها، وهو الكتاب الذي اعتُمِد لتلامذة السنة الأولى الثانوية، وفق المنهج الذي أقرته وزارة المعارف.في عام 1935 حصلت سميرة على الشهادة الثانوية بامتياز مع مرتبة الشرف، ولم يكن هذا أمراً عادياً كما هو في يومنا هذا، لإن الفتيات لم يكن يسمح لهن بدخول امتحانات التوجيهية (الثانوية) إلا من المنازل حتى تم تغيير القرار في عام 1925، وتم إنشاء مدرسة الأميرة فايزة كأول مدرسة ثانوية للبنات في مصر.وكان لتفوق سميرة فضل كبير على مدرستها، إذ كانت الحكومة تمنح المدرسة التي يتخرج منها الأوائل مساعدة مالية، ونظراً إلى تفوق سميرة وتميزها اشترت مديرة المدرسة نبوية موسى مختبراً خاصاً بالمدرسة، عندما علمت أن التلميذة المجتهدة تنوي أن تنتقل إلى مدرسة حكومية نظراً إلى توافر مختبر فيها.أول معيدة في مصر رفض والدها أن تدخل الجامعة، لكنها أصرت وهددت بالانتحار، وانتصرت لرغبتها والتحقت بكلية العلوم، وقررت سميرة أن تلتحق بكلية العلوم قسم الفيزياء، على رغم أن مجموعها الكبير كان يؤهلها للالتحاق بكلية الهندسة، وفي الجامعة حققت الكثير من النجاح وساعدها في ذلك أستاذها العالم الذري الكبير الدكتور علي مصطفى مشرفة، الذي كان يشغل منصب عميد كلية العلوم، والذي كان له بالغ الأثر عليها.تمكنت سميرة من الحصول على درجة البكالوريوس وكانت الأولى على دفعتها، وتم تعينها في الكلية كأول معيدة في كلية العلوم وكان للدكتور علي مشرفة دور كبير في أن تنال سميرة حقها في التعيين كمعيدة متحدياً جميع الاعتراضات التي واجهتها، إذ كان التدريس في الجامعة حكراً على الرجال، ووقف الدكتور مشرفة معها واحتدم الخلاف بينه ووزير المعارف، حتى أنه وضع استقالته في كفة وحق سميرة في كفة، فاجتمع مجلس الوزراء وقرر الموافقة على تعيينها في سلك التدريس الجامعي، لتكون أول فتاة تشغل المنصب.أثناء وجودها في الكلية كطالبة شاركت في أنشطة عدة، فانضمت إلى ثورة الطلاب عام 1932، وشاركت في مشروع القرش لإقامة مصنع محلي للطرابيش، وكان الدكتور مشرفة أحد المشرفين على هذا المشروع، كذلك شاركت في جمعية الطلبة للثقافة العامة، التي هدفت إلى محو الأمية في الريف المصري، وجماعة النهضة الاجتماعية، إضافة إلى انضمامها إلى جماعة إنقاذ الطفولة المشردة، وإنقاذ الأسر الفقيرة. {مس كوري المصرية}كان من المفروض أن تسافر سميرة للحصول على الدكتوراه من إنكلترا، لكن الحرب العالمية الثانية اشتعلت آنذاك، فأصبح السفر إلى المنطقة أمراً مستحيلاً، فحصلت من القاهرة على درجة الماجستير في «التوصيل الحراري للغازات» عام 1942، وفي هذه الرسالة تنبأت سميرة بالقنبلة الذرية، قبل أن يسمع عنها أحد قبل إلقائها على اليابان عام 1945، إذ قالت في رسالتها بالحرف الواحد: «بعض العناصر إذا تم تكثيف ذراته بشدة قد ينفجر ويحرق مدينة بأكملها».بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافرت سميرة موسى إلى إنكلترا للحصول على الدكتوراه في الفيزياء النووية، وكانت مدة البعثة ثلاث سنوات، أنهت رسالة الدكتوراة في سنتين منها، وكان موضوع رسالتها: «خصائص امتصاص المواد لأشعة إكس»، وعكفت في السنة الثالثة على البحث والدراسة، وتوصلت عبر أبحاثها إلى معادلة تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس وصنع القنبلة الذرية من مواد قد تكون في متناول الجميع، بالتالي لا تكون الدول الغنية مثل أميركا صاحبة الحق في امتلاك المعرفة والقوة، وأطلقوا عليها في إكسفورد لقب «مس كوري المصرية».وقبل أن تعود إلى مصر، كتب البروفيسور فلينت، أستاذها في إنكلترا، خطاباً رسمياً إلى الجامعة المصرية، قال فيه: «تجارب سميرة قد تغير وجه الإنسانية لو أنها وجدت المعونة الكافية».آمنت الدكتورة سميرة موسى بمبدأ مهم وهو التكافؤ في امتلاك الأسلحة النووية، كي لا تفرض دولة قوتها على الأخرى، فأي دولة تسعى إلى السلام يجب أن تسعى إليه وهي في موقف قوة، وقد لفت انتباهها اهتمام إسرائيل بامتلاك الأسلحة النووية وانفرادها بها، وكان هذا بمثابة التأكيد على فكر سميرة في أهمية مجاراة التقدم والحصول على ميزة التسلح، خصوصاً بعد مأساة القنبلة النووية التي أسقطها الأميركيون على مدينتي هيروشيما ونغازاكي في عام 1945 في الحرب العالمية الثانية.للأسف، على رغم كثرة الأبحاث والدراسات التي قامت بها سميرة، إلا أن معظمها لم يصل إلينا، وكان أملها دوماً تسخير الذرة لخدمة الإنسان في المجالات السلمية والطبية كالعلاج بالذرة وقد تطوعت في مستشفيات قصر العيني لمساعدة المرضى في العلاج مجاناً، وأجرت أبحاثاً كثيرة في مجال علاج السرطان بالراديوم.النهايةكان للدكتورة سميرة دور مهم في إنشاء هيئة الطاقة الذرية في مصر في وقت لم يكن يعرف عامة الشعب ما تعني هذه الكلمة، ولو كُتب لها عمر أطول كانت مصر لتصبح في صف الدول النووية. كذلك نظمت سميرة مؤتمر «الذرة من أجل السلام» في كلية العلوم، وسط مشاركة علمية من عدد كبير من علماء العالم، وكانت عضواً في لجان متخصصة كثيرة، من بينها لجنة الطاقة والوقاية من القنبلة الذرية التي شكلتها وزارة الصحة المصرية.كذلك نشرت عدداً من المقالات، من بينها مقالة علمية مبسطة عن الطاقة الذرية، وكانت تهوى القراءة والاطلاع، وكانت لها مكتبة ضخمة تضم كتباً قيمة ومتنوعة كثيرة، تم التبرع بها إلى المركز القومي للبحوث عقب وفاة سميرة.انشطار نواة الذرة مكمن الطاقة النووية، لكن هذا الانشطار لا يحدث إلا عند وجود وزن معين يسمى «الوزن الحرج» أو «الكتلة الحرجة»، وهذه المعادلة التي توصل إليها أينشتاين وزملاؤه من علماء الفيزياء مكنت الأميركيون من تصنيع القنابل النووية، أو القنابل الانشطارية، التي يسميها العامة «القنابل الذرية» وهي تسمية خاطئة.هذا الانشطار كما هو مسلم به لا يحدث لذرات أي عنصر، بل مقتصر على العناصر المشعة ذات الوزن الذري العالي مثل اليورانيوم والبلوتونيوم، لكن العالمة المصرية العبقرية استطاعت التوصل إلى معادلة رهيبة، بموجبها قد تنشطر نوات ذرات أخرى غير هذه العناصر الموجودة في الأرض، بالتالي كانت سميرة لتصنع قنابل نووية من النحاس مثلاً عن طريق تكثيف ذرات ذلك المعدن بطريقة علمية توصلت إليها بمفردها، ومن هنا أصبحت الدكتورة خطراً على الدول بمفهوم الأمن القومي، التي تريد أن يبقى امتلاك هذه القدرات حكراً عليها، وقد تكون معامل هذه الدول توصلت إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها الدكتورة سميرة، وهي إمكان تصنيع قنابل انشطارية من معادن رخيصة، لكنها لو نشرت هذه الاكتشافات ستصبح كل الدول لديها هذا السلاح الرادع، بالتالي يفقد أهميته الاستراتيجية.كانت ثورة يوليو في مصر قد مر عليها ثلاثة أسابيع، وقيامها أفزع بن غوريون مؤسس الدولة العبرية وأول رئيس لحكومتها، فقد شعر أن هؤلاء الضباط الشبان سيدمرون دولة إسرائيل، وهو كان يفكر في امتلاك القنبلة النووية منذ أول يوم لقيام إسرائيل، فتصور أن هؤلاء الضباط يفكرون مثله، ووجود عقلية عبقرية مثل سميرة موسى قد يشجعهم على السير في هذا الاتجاه، ومن هنا كان لا بد من تصفية سميرة بشكل عاجل.وما يؤكد ذلك ما قاله أينشتاين للكاتب الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل في حواره معه في عام 1952 بعد قيام الثورة بقليل، الذي أعاد هيكل نشره في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ». سأل أينشتاين هيكل: هل صحيح أنك تعرف بعض شباب الضباط الذين قاموا بالثورة في مصر؟ فأجاب هيكل: إنني إلى حد ما أعرف بعضهم... وعاد أينشتاين يسأل هيكل: هل تعرف ما الذي ينوون عمله بأهلي؟ وعندما أبدى هيكل دهشته أضاف أينشتاين: أهلي من اليهود... هؤلاء الذين يعيشون في إسرائيل!عرض بن غوريون على أينشتاين أن يكون أول رئيس لإسرائيل، لكنه رفض لتقدم سنه وتعلقه بالبحث العلمي، وهذه إشارة إلى أن الدولة العبرية منذ لحظات إنشائها الأولى كانت تسعى إلى أن يكون لها تفوقها في المجال النووي، بل وتكون وحدها منفردة به، وفي سبيل الحفاظ على هذا المبدأ تفعل أي شيء وكل شيء مهما كلفها، فأسست قسماً خاصاً بجهاز مخابراتها مهمته تنفيذ الاغتيالات لكل من يشكل خطراً عليها، كي تظل وحدها الدولة النووية الوحيدة في المنطقة.