ما قل ودل: عندما قال عبدالناصر لامرأة «إني وراء القتلة»

نشر في 01-08-2010
آخر تحديث 01-08-2010 | 00:01
 المستشار شفيق إمام  شهيد التعذيب بالإسكندرية

أكثر ما أثارني في الاعتداء الوحشي الذي وقع من اثنين من رجال الشرطة المصريين على الشاب المصري خالد سعيد في أحد شوارع مدينة الإسكندرية، والذي أدى إلى وفاته، واندلاع مظاهرات بالآلاف احتجاجاً على هذه الجريمة المروعة في الإسكندرية، ومظاهرات في محافظات أخرى، ارتدى فيها المواطنون لباس الحداد على الشاب المسكين، أكثر ما أثارني الغضب العارم لبعض الأقلام الصحفية، في ما يعرف بالصحف القومية في مصر من البيان الصادر من بعثة الاتحاد الأوروبي في القاهرة الذي أعلن أن "رؤساء البعثات الدبلوماسية لدول الاتحاد في مصر يعربون عن قلقهم إزاء ظروف وفاة خالد السعيد"، وهو الأمر الذي اعتبرته هذه الأقلام تدخلاً في الشؤون الداخلية لمصر وانتهاكاً لسيادتها... فقد غابت عن تلك الأقلام حقائق عديدة منها:

تضحيات الشرطة لا تبرر التعذيب

وكان من بين ما ساقته الأقلام التي انبرت دفاعاً عن الشرطة تبريراً لمقولة أن الحادث فردي، وأنه لا يجوز أن يأخذ أكثر من حجمه، ما قدمته الشرطة من تضحيات حفاظاً على الأرواح والأعراض ولحفظ الأمن، لعل الأخير منها وليس آخرها أن أمينا للشرطة دفع حياته ثمناً لإنقاذ امرأة خطفها من أحد الميكروباصات لاغتصابها مسجلون خطر في مدينة نصر، وهو ما دفع ثمنه أيضاً أمين شرطة آخر، في إنقاذ فتاة في المنوفية من أربعة مسلحين من محاولتهم خطف فتاة في المنوفية لاغتصابها، والعريف الذي دفع حياته ثمناً في مقاومة مسلحين عند تهريبهم أحد المتهمين في سيارة الترحيلات في العياط.

ومع تقدير دون بخس لرجال الشرطة وللتضحيات التي يقدمونها أثناء قيامهم بواجبهم في خدمة العدالة وفي حفظ الأمن في البلاد، فإن هذه التضحيات وأكثر منها لا تصلح سبباً للتسامح مع شرطي واحد يرتكب جريمة تعذيب في حق مواطن واحد، وقد قال أبو مسلم الحولاني "إن عدلت مع أهل الأرض جميعاً وجرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

رفقاً بالوطن:

أثارتني هذه الأقلام كثيراً التي ارتدت عباءة الوطنية لتتهم الأقلام الأخرى التي تسابقت على إدانة هذه الجريمة البشعة والمطالبة بمحاسبة المسؤولين وتقدم المتهمين بها إلى القضاء بأنها لجأت إلى أسلوب رخيص في إثارة مشاعر الناس، وفي التأثير على الاستقرار، وطالبتها بالرفق بالوطن، وكأن أصحاب هذه الأقلام قد شابت وطنيتهم وانتماؤهم للوطن شائبة، عندما أدانوا الجريمة البشعة، والعكس هو الصحيح لأن التعتيم على هذه الجريمة أو غيرها وحفظها دون القصاص من المجرمين هو ما ينحدر بسمعة الأوطان إلى الحضيض في المحافل والمنتديات والمؤتمرات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.

"الأوروبي" فتح ملف القضية:

وقد فات تلك الأقلام أن القضية لم تطفُ على السطح، ولم يجر تحقيق فيها إلا بعد صدور بيان الاتحاد الأوروبي، وتنديد منظمات حقوق الإنسان العالمية والإقليمية، وتحفظ ممثلي الدول الكبرى على ما جرى من انتهاك لحقوق الإنسان في هذه الجريمة، وأن الموضوع كان قد أقفل بدعوى وفاة الشاب إثر تعرضه لاسفكسيا الاختناق بسبب انسداد مسالك الهواء لدى ابتلاعه لفافة من البانجو طولها 7.5سم وعرضها 2.5سم، عند محاولة الشرطيين القبض عليه.

وأن النيابة العامة بعد البيان الأوروبي، قد أمرت بإخراج الجثة لإعادة فحصها والتحقيق في القضية، وانتهى التحقيق إلى إحالة الشرطيين إلى محكمة الجنايات بتهمة استخدام القسوة والقبض على إنسان دون وجه حق.

خطاب أوروبي آخر أوقف التعذيب في سجون مصر:

وقد أوقف التعذيب في سجون مصر بقرار أصدره الرئيس جمال عبدالناصر، إثر تحقيق في إحدى وقائع تعذيب أمر بإجرائه عندما كان في زيارة ليوغوسلافيا، يشاهد والرئيس تيتو استعراضا للشبيبة اليوغوسلافية، إذ وقف أحد الشباب اليوغوسلافي في الاستعراض يلقي كلمة فناشد الحضور الوقوف دقيقة حداداً على روح مناضل شيوعي مصري قتل من التعذيب في أحد سجون (الضيف الرئيس جمال عبدالناصر).

فأصدر الرئيس جمال، وهو فوق المنصة قراره بإجراء التحقيق في هذا القضية، وكان الفقيد قد ووريت جثته التراب، بعدما أثبته طبيبا السجن من أن المعتقل، سقط عن الدرج أثناء صعوده ومات متأثراً بذلك، ثم أثبت التحقيق الذي أمر الرئيس الراحل بإجرائه، أنه مات من أثر التعذيب الذي تعرض له... وأوقف الرئيس الراحل التعذيب في السجون المصرية، بعد هذا التحقيق.

وطنية عبدالناصر فوق كل شبهة

ولعل أبلغ رد على الأقلام التي تباكت على سيادة مصر وعلى وطنية الكتاب الأحرار، واستنكرت التدخل الأوروبي في هذه القضية، أنه لم يكن هناك من هو أكثر وطنية من جمال عبدالناصر، فلم يكن هناك أحرص منه في الدفاع عن كرامة وسيادة مصر، ولم يكن الرئيس الراحل مفرطاً في سيادة مصر عندما أمر بإجراء تحقيق في قضية تعذيب شهدي عطية، والرئيس الراحل يشاهد الاستعراض على المنصة الرئيسة للحفل، فلم يغادر الحفل محتجا على هذا التدخل من أحد الشبيبة في الاستعراض، على الرغم مما شاب الموقف من عدم لياقة، بل أرسل إلى أرملة القتيل برقية يقول لها فيها "إني وراء القتلة".

 وكانت زوجة المناضل القتيل قد نعت إلى الأمة العربية في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام المصرية فقيدها الغالي شهدي عطية ووصفته بالشهيد فقيد العلم والوطنية، واختارت بيتا للشعر تضمنه النعي يقول:

"فتى مات بين الطعن والضرب ميتة

تقوم مقام النصر إن فاته النصر"

التعذيب لا يستمد شرعيته من سيادة الدولة

ذلك أن السيادة في مفهومها البسيط ودون الدخول في تفصيلات التعريفات الفقهية تعني بسط الدولة قوانينها وسلطاتها على أراضيها وعلى المقيمين عليها من مواطنين وأجانب، وعلى سمائها ومياهها الإقليمية، وعلى المرور فيها والذي لا يتم إلا بإذن من سلطات الدولة، ومن هنا فإن هذه السيادة لا تعني قتل الناس أو ترويعهم أو تعذيبهم. فالمفهوم الحقيقي للسيادة هو أن تطبق الدولة على أرضها وسمائها ومياهها قوانين العدل، أما التعذيب فله قوانين أخرى أقرتها الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية، التي أقرت جميعا التدخل الدولي الإنساني لمكافحة التعذيب.

وللحديث عن التعذيب والتدخل الدولي الإنساني في قضاياه بقية إن كان في العمر بقية.

back to top