حديقة الإنسان بوتر ضد بوتر

نشر في 25-06-2010
آخر تحديث 25-06-2010 | 00:00
 أحمد مطر لو قيض للسيدة بياتريكس بوتر العودة إلى الحياة، والاطلاع على سلسلة روايات للأطفال والناشئة بعنوان «هاري بوتر»، فماذا سيكون رد فعلها؟

من المحقق أنها ستحتفي بموهبة مواطنتها «ج. ك. رولنغ» مؤلفة تلك السلسلة، وستهنئها بلا شك على ثقل حصالتها التي حوت مئات الملايين كمردود لهذا العمل، ما جعلها، خلال سنوات قليلة، أغنى كاتبة في التاريخ.

لكنني، مع ذلك، أظن، وليس كل الظن إثماً، أن بياتريكس ستبدي أسفها لأمرين: أولهما أن شرارة هذه الموهبة الممتازة أشعلت حريقاً واسعاً لتمجيد ظلام مطبق... وثانيهما أن البطل المرصود لهذا التمجيد يحمل اسمها الثاني!

وإذا تركت تداعيات الإسم جانباً، فأي شيء يدعوني إلى مثل هذا التخمين؟ أهو إعجابي بقيم الخير والجمال التي احتوتها مواضيع بياتريكس بوتر، أم كدري من انقلاب هذه القيم تماماً في موضوع هاري بوتر؟

الأمران متلازمان، كما أعتقد، خصوصاً إذا تعلقت المسألة بالتوجه إلى الأطفال.

الأطفال هم صورة البراءة الحية، والبراءة بطبيعتها هي منبع الفضول الذي لا ينقطع. والقصة الموجهة إلى الأطفال إنما تستثمر هذا الفضول لبناء حبكتها المشوقة، وهي بطبيعة الحال لا تطمح إلى تثبيت تلك البراءة، فهذا أمر مستحيل، لكنها تكتفي من جهدها بطموح بسيط: هو التلويح بالمعاني النبيلة والترغيب فيها، أو على الأقل تحقيق التسلية البريئة.

هكذا كانت قصص الأطفال على مر العصور، جملتها الأولى «كان ياما كان» وجملتها الختامية «وعاشوا طويلاً بسعادة» وما بين الجملتين ينعقد التشويق على صراع بين الخير والشر، القبح والجمال، الظلام والنور، والمنتصر في النهاية هو الخير.

ولعل الظاهرة اللافتة في معظم تلك القصص، أن أعمال السحر والشعوذة تقترن غالبا بأسوأ شخوصها وأكثرها استقطاباً للكراهية والنفور.

لكن كل هذا البناء الجميل الأليف المثير للإعجاب، ينهدم فجأة وبضربة واحدة، منذ الصفحة الأولى للقصة الأولى في سلسلة «هاري بوتر»، فإذا الناس الطبيعيون الأسوياء الذين يبغضون أعمال السحر، ويحاولون حماية أطفالهم من الوقوع في حبائلها... يبدون أشراراً بغيضين، وإذا عالمهم الطبيعي يصبح عالم «المغل» الجاهل التافه المقزز!

وعلى النفيض من ذلك، فإن سكان العالم السفلي من السحرة والمردة وذوي السحنات القبيحة والأعمال المرعبة يبدون أسوياء طيبين، وإذا عالمهم هو العالم المطلوب من الأطفال أن يحبوه ويتعاطفوا معه بمواجهة عالم الطيبين حقاً الذين اخترعت لهم المؤلفة اسم «المغل» الذي لا وجود له في القاموس.

كشخص بالغ، أعجبت بكفاءة رولنغ الروائية، لكنني منذ موضوع الرواية الأولى، وهي موجهة إلى الصغار أساساً، لم أتردد عن القول في نفسي «إنها عمل مدمر من الدرجة الأولى». ليس لأن الرواية أعرضت عن مناصرة الجمال فحسب، لكن لأنها، أيضاً، انحازت بإصرار غريب إلى جانب البشاعة!

الكاتبة، بدلاً من أن تهرب بطفلتها الداخلية من واقع الكبار الفظ إلى واقع الطفولة الرضي، عمدت إلى اختطاف الأطفال الحقيقيين من جنة طفولتهم، ودفعتهم دفعاً نحو جهنم الكبار، بل إلى ما هو أسوأ منها، وعند هذه النقطة يلوح الخطر الأعظم.

كنت قد سألت ابنتي، منذ بضعة أعوام، عن رأيها بالرواية الأولى التي قرأتها من «هاري بوتر» فأهدتني ابتسامة عريضة، قبل أن تقول إنها ممتعة... لكنها فظيعة.

وعدت أسألها عن وجه الفظاعة فيها، فضحكت بصوت عال، ثم اختصرت الإجابة بقولها: ثمة مجلة اعتادت أن تضع ملخصات قصيرة لفحوى الأفلام المعروضة في دور السينما حالياً، وقد وضعت تحت ملصق فيلم «هاري بوتر» التعليق القصير التالي: «أنا أكره أولياء أمري... لأنهم يمنعونني من عبادة الشيطان»!.

ووجدتني أضحك معها لطرافة التعليق، ولدقته التامة في تشخيص مغزى الرواية الوحيد وعلى الضد من ذلك تماماً تقف أعمال بياتريكس بوتر (1866 ـ 1943) التي لا تزال تطبع منذ مئة عام، وستظل تطبع، كما أعتقد، إلى ما شاء الله.

فهذه الكاتبة التي نشأت متعلقة بحياة الريف والحيوان، علَّمت نفسها الرسم والتلوين منذ حداثتها وسخرت ذلك في ابتكار شخصيات لحيوانات أليفة ترتدي ملابس البشر، مرفقة بحكايات كان هدفها الأول تسلية أحد الأطفال المرضى، لكنها بعدما فكرت في نشرها عام 1902 بعنوان «حكايات الأرنب بيتر.. وأصدقائه» أصبحت أحد أشهر كتاب الحكايات المصورة في عصرها وحتى الآن.

وتمتاز تلك الحكايات، الى جانب ميزة الرسوم الجميلة، بتمجيد حياة الريف الساحرة البريئة وإعلاء شأن القيم الطيبة الأصيلة والارتقاء بالحس الإنساني وبسط هيمنته على أدنى المخلوقات في مملكة الحيوان.

لذلك فان شخصيات مثل الأرنب بيتر، والبطة جمايما والسيدة تيكي وينكل، إضافة الى غيرها من شخصيات قصصية ابتكرتها، أصبحت اليوم ضمن كلاسيكيات أدب الأطفال.

أما هاري بوتر فأغلب ظني أنه لن يصبح إلا علامة قبيحة لعصر قبيح تولد خارج رحم السوية الإنسانية.

الكتابة للاطفال لا تكتفي بالموهبة والمهارة، بل تتطلب من الكاتب، فوق ذلك شيئاً آخر يشبه المعجزة، هو أن يكون محتفظاً في أعماقه بالطفل الذي كانه ذات يوم.

وقليلون... قليلون جداً، كما يقول الكاتب الألماني هيرمان هسّه، أولئك الكبار الذين لم ينسوا معنى الطفل، وكيف يعيش ويعمل ويفكر، وما الذي يحبه وما الذي يكرهه.

وفي ظني أن بياتريكس بوتر كانت واحدة من أولئك القليلين الذين أنزلوا الطفل الذي في داخلهم ضيفاً طيباً على الأطفال في ساحة خضراء مغمورة بالنور.

أما السيدة رولنغ، فلست أراها من وراء زجاج نظارة هاري بوتر، إلا خاطفة أطفال وعذري في أي حال أن رسائل الساحر الكبير لم تصل إلي وأنني لحسن الحظ لا أزال واحداً من «المغل»!

back to top