آمال شياطين الخير (2)

نشر في 17-07-2009
آخر تحديث 17-07-2009 | 00:00
 محمد الوشيحي تتمة للحديث عن بلزاك الذي بالفعل نجح في تكوين ثروة بسبب انكبابه على الكتابة والقهوة دون اهتمام بصحته، فقد كان يُنهي الرواية في غضون ستة أسابيع، ثم يعرضها في السوق فتتلقفها الأيادي، فتتكدس الأموال في رصيده، ويكتب رواية جديدة في شهرين ويعرضها في السوق، وهكذا، وكأنه يسابق الموت، ويريد قبل ذلك أن يؤمّن لنا نحن أبناءه القراء بعد غيابه رصيداً ينفعنا في اليوم الأسود، وقد كان. وها هي الأجيال تتناقل رواياته مذهولةً بطريقته المدهشة في الربط بين الشخوص، وقدرته الفائقة على المحافظة على تماسك الحدث الرئيسي، ورائعته "الأب غوريو" تشهد بذلك.

لكن أكثر من حيّر شياطين فكره وأتعبها، وحيّر قبلها النقّاد والأدباء، هو الشاعر الفرنسي "رامبو" (1854 – 1891)، المشهور بـ"الشاعر الملعون"، وهو حقاً ملعون، وأكثر من ملعون، بل ويستحق أن ترميه أنت وأصدقاؤك المقربون بكل ما تعرفونه من شتائم، ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً. ليش؟ لأنه ناعم جميل كالبنات، وشاذ جنسياً، لا يردعه رادع عن شهواته ورغباته. ولو كانت هذه هي مشكلته فحسب لهانت الأمور، لكنه كان يفتري على الناس، وكان يتهم أي ثري لا يعطيه مالاً بأنه أخذه إلى مزرعته وعمل معه كذا وكذا، ويؤلف القصص، يعينه على ذلك خياله الواسع، فينتشر الخبر في فرنسا التي تمسي وتصبح على أخبار الملعون وقصائده الخيالية الرائعة، فينهدم بيت الثري على رأسه، وتطارده امرأته بالنعال والقبقاب.

وقد أطلقوا على "الملعون" النار، وأصيب ونجا مرتين أو أكثر، إلى أن هرب على ظهر سفينة إلى أثيوبيا، ومنها إلى اليمن، وعاش في اليمن يتاجر بالسلاح، وكدّس ثروة ليست بالهيّنة، هي حصيلته من فرنسا واليمن. ثم تلبّسته الأمراض، وقد يكون الإيدز أهمها، لكن أحداً لا يجزم، وشارف الموتَ، وطلب نقله إلى فرنسا ليموت هناك، وبالفعل مات هناك وهو بالكاد يتصافح مع سن السابعة والثلاثين، وكان على فراش الموت يردد (على ذمة أخته) باللغة العربية: الله كريم، الله كريم، الله كريم...

وليست هذه الأشياء هي الأهم في حياته، لا، الأهم أنه كتب قصائده كلها، وهو ما بين الخامسة عشرة من عمره والثامنة عشرة، أي في ثلاث سنوات فقط، ثم توقف مرة وإلى الأبد عن نظم القصائد، ومع هذا، لاتزال كليات الآداب تناقش قصائده، ولايزال هو محور أحاديث الأدباء والنقاد، ولايزال هو "الأعظم على مستوى التاريخ في الشعر" كما يعتقد البعض. وكان الأدباء وعشاق الشعر يحتفظون بقصائده في قصاصات، ويخبئونها عن أعين الناس وكأنها مخدرات، بل أشد... إنه الإبداع الذي أجبر أدباء عصره على تكديس قصائد هذا المراهق الماجن تحت مخداتهم، وسرقة الوقت لقراءتها.

ولأن الترجمة تشوّه الشعر، لم أقرأ قصائد هذا الملعون، لكنني قرأت عنها، وهالني ما قرأت، وإن كان لا يعادل مثقال ذرة بالمقارنة ببعض أبناء الترف الخليجيين الذين ينظم أحدهم الشعر وهو لايزال في المهد صبياً، فهو شاعر خطير، يسبح ويطير، ويأكل الفطير، ويفوز في سباقات الخيل، ويمخر الفرات والنيل، وآه يا عيني آه يا ليل.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top