مونتريال في يناير... قضمات باردة وأخرى دافئة!

نشر في 08-02-2010 | 00:00
آخر تحديث 08-02-2010 | 00:00
قبل هبوب العاصفة الثلجية في ديسمبر (كانون الأول)، بدت فكرة الهروب في منتصف الشتاء إلى مونتريال منطقية إلى حدّ ما. منذ غادرت بوسطن، رحت أسخر من أصدقائي من دون رحمة بشأن برودة الطقس في واشنطن، فلمَ لا أثبت جرأتي عبر مخالفة اتّجاه العصافير الهاربة من الصقيع والسفر شمالاً لأخذ جرعة برد في كندا في يناير (كانون الثاني)؟

انخفضت حينئذ درجات الحرارة على طول الساحل الشرقي. ففي رحلاتي الست السابقة إلى مونتريال، كان الطقس عادةً في الخريف معتدلاً نهاراً، وصافياً ومنعشاً مساءً، ما يجعل التنزّه في المدينة أكثر إمكاناً من العادة. لكن هذه المرة، سيكون المشي بالتأكيد مجهداً ومرجفاً، تماماً كما في منزلي في واشنطن. كان القلق ينتاب صديقي من أتلانتا الذي ذهب لملاقاتي هناك. بغض النظر عن الطريقة الفنية التي ربط فيها وشاحه، لن يغني ذلك عن واقع أن معطفه الأكثر دفئاً ما كان سوى سترة جلدية محشوة.

عملت بعزم على تأمين راحتنا مسبقاً، فحجزت جناحاً في فندق فيه مدفأة تعمل على الخشب المحروق، ووجدت لنا منتجعاً فيه حمام بخار بأسلوب حمامات الشرق الأوسط، وحجزت في مطاعم معروفة بوجباتها المتخمة. وفي أسوأ الظروف المناخية، كنا نستطيع دوماً الانتقال إلى المدينة الواسعة تحت الأرض، كما تلك التي في تورونتو، والتي تصل بين المتاجر، الفنادق، والأنفاق وغيرها.

حين خرجنا من المطار، بدا صديقي بيل في غاية الأناقة، بينما كنت أشبه تين مان بمعطفي الطويل الفضي والمنتفخ، والهواء الساخن يلفح وجهينا. مضى أسبوع على اطّلاعي على أحوال الطقس، فإما أن المناخ تغيّر أو أنني أخطأت في عملية تحويل درجات الحرارة إلى النظام المئوي وتهيأت لطقس جليدي من دون داع. فابتسم بيل بينما قطّبت جبيني، وبدأت أتعرّق.

مع ذلك حين تناولنا الغداء وسجّلنا وصولنا إلى الفندق، بدأت درجات الحرارة بالهبوط في ظل توقّعات بهبّات ريح، لا بل سقوط ثلوج. لذلك حان الوقت لكي نشعل المدفأة. زوّدنا فندق St.-Sulpice بألواح خشبية طويلة مغطاة بالبلاستيك بدلاً من الأخشاب المقطوعة مباشرةً من الشجر، لكنها كانت على الأقل خياراً أفضل من الخيارات الأخرى التي قدّمتها الفنادق الأخرى كالتدفئة بالكهرباء والغاز. بنتيجة الأمر، ساد جو حميم.

لتعزيز بحوثي الصحافية، حجزت في مطعمين لليلة. الأول كان «جو بيف»، حانة جدّ عصرية إلى حد أنه حين حل المساء، دخل جيمي فالون وبعض الأصدقاء مطالبين بحصّتهم من المقاعد الثمانية والعشرين. إنه مكان ضيّق يقع في حي ليتل بورغوندي ومصمم بأسلوب الأسواق التي تُقام في العراء. جلسنا عند المشرب المؤلف من أربعة مقاعد، إلى جانب بعض الذين يرتادونه ممن يعيشون في هذا الحي الذي كان يسكنه المشرّدون سابقاً، ويقصدونه غالباً لتناول المقبّلات وتشاطر أطباق رئيسة. هذا المطعم متواضع جداً، وذو طابع كندي نموذجي ومختلف تماماً عنّا نحن الأميركيين الذين نحب الإسراف.

بعدما تناولنا فطيرة بالجبنة المدخنة وأخطبوطاً رائعاً مع الحمّص، طلبنا سندويشاً كان علينا بلا شك تقاسمه. بدت قطعة الخبز التي تحتوي على شريحتي دجاج وبيضة مقلية أشبه بقبعة بريطانية قديمة وأنيقة، لا تضاهي كمية البروتين التي كانت تحتويها. لم نستطع إكمالها، لا سيما وأنه كان علينا أيضاً الانكباب على طبق بط على الطريقة الصينية، تتبعه حلوى.

أمّا المطعم الآخر الذي اخترناه من بين تلك الأكثر ملاءمةً للجو الدافئ فكان علينا تفويته. على رغم أنه من الممتع التفكير في تناول عشاء بعد تمضية نهار في التزلج في نهاية أسبوع باردة، لم يكن طبق مطعم La Raclette المسمّى على اسمه والمؤلف من بطاطا وشريحة لحم معالجة عليها جبنة ذائبة، لذيذاً بقدر الطبق الذي تناولته في منزل إحدى العائلات السويسرية في واشنطن.

كان مطعم La Banquise ووجبتنا الخفيفة التي تناولناها في منتصف بعد الظهر أفضل بكثير، وذلك إن اعتبرنا البطاطا المقلية المغلف سطحها بصلصة مرق اللحم والجبنة وجبةً خفيفة. ترد، في La Banquise، عشرات الأنواع من هذه الوجبة، الأشهر في كيبك، على لائحة الطعام، بأسماء مثل T-Rex، Dan Dan، وOle! Ole. لكننا التزمنا بالوجبة التقليدية وأضفنا إليها المرتديلا، البصل، والنقانق الحارة.

بحلول يوم الأحد، تراوحت درجات الحرارة ما بين 13 و19 درجة مئوية من دون رياح باردة، وبدأ بيل يدرك أن مظهري الشبيه بتين مان لم يكن مثيراً للسخرية في النهاية. فسرنا بتثاقل إلى محطة الميترو ومن ثم إلى سوق جان تالون الذي يعج بالسكّان المحليين والسياح في عز الموسم، حين تُزال الجدران الخارجية، وتُفرش المنصات المليئة بالمنتجات الزراعية في الخارج محيطةً عملياً بالسوق. وفي يناير، تعكس السوق المسقوفة جواً مرحباً شبيهاً بجو الدفيئة.

انتظرنا في الصف في سوق Creperie du Marche لتذوّق وجبات لذيذة خاصة بكيبك: تفاح ساخن، مرتديلا وجبنة في فطيرة مصنوعة من الحنطة السوداء سُكب عليها شراب القيقب. وفي متجر Fromagerie Hamel الواقع خارج السوق، قطع لنا البائع عيّنات من جبنة فرنسية مصنوعة من الحليب الطازج. أمّا من متجر Olives and Epices الحي، فقد اشتريت فلفلاً حاراً يُدعى بيري بيري من مالاوي، وملحاً أسود له قشور من هاواي، وكموناً أسود من باكستان، الأمر الذي أشعرني بالدفء في تلك اللحظة.

بعدما تنزّهنا عبر ساحة سانت لويس في الحي اللاتيني وتفحّصنا واجهات المتاجر على طول شارع يانت دنيز، بدأ بيل يسأم لسعات البرد، لكنني تصوّرت بأن تخليصه منها لن يكون عصياً على جلسة تدليك وبعض البخار. وصلنا إلى نادي Rainspa في فندق Hotel Place d’Armes، على بعد بضعة مبان من فندقنا، قلقين بعض الشيء من أن يكون الحمام في داخله مختلف الأسلوب. لكن ما إن خضعت لتقنية تقشير مكثفة وجلسة تدليك في داخل غرفة بخار منفردة، تذكّرت أسلوب الحمامات التي ارتدتها في اسطنبول وسعرها أيضاً. لسوء الحظ، ذلك هو التدليك التقليدي الذي حصل عليه بيل.

لحسن الحظ، كان عشاؤنا الأخير ليجعل أي محب للطعام ينسى يوماً مخيّب الآمال في ناد صحي. ففي مطعم Au Pied de Cochon، مطعم مارتان بيكار الذي يعج بالضيوف، طلبنا كميات كبيرة إلى حد أن النادل تدخّل لإقناعنا بطلب كميات أصغر لكن من دون جدوى. كان محقاً بلا شك. فلا يجب على أي أحد تناول لفافات من اللحم المفروم مع المطيبات والبيض، وطبق بوتين مع الكبد الدهني، ونقانق مع بطاطا مهروسة وساق حمل مطبوخة. لكننا أردنا تذوّقها جميعها. ولعل الحلوى هي أفضل ما تناولناه خلال نهاية الأسبوع. فبودينغ شومور، أي بودينغ الفقراء، عبارة عن قالب حلوى مخبوز في كاراميل القيقب. إنه طبق تقليدي في الكيبك، وبعد لقمة واحدة من هذه الحلوى الساخنة والدبقة، عرفنا السبب.

كان الجو بارداً في الخارج، لكن في داخل Au Pied de Cochon، ونحن ننفخ على ملاعقنا الساخنة، كان الجو يزداد اعتدالاً. 

back to top