الكائن الهرموني والإبداع

نشر في 15-06-2010
آخر تحديث 15-06-2010 | 00:01
 د. نجمة إدريس اعتدنا منذ بزوغ التاريخ البشري تقييم سلوكيات الإنسان، وطباعه، وصفاته المعنوية بمقياس أخلاقي بحت، فوزعنا السجايا والرذائل على قدْر قامة تلك السلوكيات والطباع: فهذا شجاع القلب، وذاك ذو مروءة وإحسان، وثالث قميء سليط اللسان، ورابع حقود ينضح بالضغينة والغلّ، وخامس خفيف الظل والروح ينشر السعادة والضحكة أينما حلّ... إلخ. وبقي هذا الربط بين نوع السلوك والخُلُق المكتسب بالفطرة أو التربية، مُسلّماً بدهياً غير قابل للنقاش!

بيد أن علم الوظائف الحيوية يقول غير ذلك. فالإنسان حسب هذا العلم- الذي يستقي حقائقه من المختبر والتجارب المعملية- كائن تتحكم في سلوكياته وطباعه مجموعة من الغدد الصماء، تصب في دمه إفرازاً سحرياً يسمّى الهرمونات. والهرمونات عبارة عن مواد كيميائية بروتينية، تأخذ مساراتها الشاسعة المتشعبة في مخ الإنسان وجهازه العصبي، وتنسرب عبر دورات في كيانه البشري بطريقة لا إرادية، لا دخل له في إيجادها، أو التحكم في انسرابها في دمه وأعصابه.

ولهذه الهرمونات أسماء أطلقها علماء البيولوجيا، مثل الأدرنالين، والتيسترون، والاستروجين، واللبتين... إلخ، وحددوا لكل هرمون وظيفة تعمل على إنجاز المهام المنوطة بها، كالنمو والتكاثر والحركة، وتقنين وظائف التغذية والنوم والدوافع الحيوية الأخرى.

بيد أن تأثير الهرمونات لا يقف عند حدود الوظائف الحيوية أو الفسيولوجية الصرفة، بقدر ما تساهم هذه الهرمونات في صياغة مزاج الإنسان، ودوافعه السلوكية، ومكوناته الفكرية، ومهاده الأخلاقي، ونظرته إلى الحياة عامة، وهذا هو مكمن العجب والخطورة، ومثار الكثير من الأسئلة!

لنلتفت حولنا, ونعيد تقييم الكثير من المشاهد: الشخص الذي عرفناه متبلداً خامل الذهن، أو أقرب إلى العته والبلاهة. وذاك الذي ينتفض غضباً وحدةً وسلاطة لسان، ما إن يُواجه بأبسط مثيرات الحياة وما أكثرها. وتلك التي تغوص في مستنقع من الكآبة والأرق وفتور الهمة. ورابعة تشعر بالكره والنفور من وليدها حديث الولادة، ولا تتورع عن إيقاع الأذى به. وخامس شره أكول لا متعة له إلا الأكل، وإلا السمنة المفرطة! وقس على ذلك ما شئت من صنوف الأخلاق والتصرفات، حتى الإيجابية منها، كالوقوع في الحب، والإفراط في النشاط، والمبالغة في الفرح.   

إن قليلاً من التأمل في وظائف الهرمونات سيبرر لنا كل هذه السلوكيات البشرية: فالمتبلد خامل الذهن، هو ضحية لنقص في إفراز الغدة الدرقية. والسريع الانفعال والهياج، يتحكم به هرمون الأدرنالين. والكئيبة المعتلة المزاج هي امرأة في منتصف العمر ، أو شابة تمر بفترة ما قبل الطمث، وكلتاهما تعانيان تأثير هرمون الاستروجين، وخطه البياني الصاعد أو الهابط، ولا تختلف عنهما المرأة الحديثة الولادة، ومعاناتها من العلاقة مع وليدها. أما الأكول الشره فواقع تحت رحمة زيادة إفراز هرمون (اللبتين) المسؤول عن الرغبة المفرطة في الأكل. وتبقى مسألة الحب وهوس التعلق المرضي، من نتائج إفراز هرمون (السعادة) في المخ، وهو أشبه بالأفيون المخدر الباعث على اللذة، ولذلك تأتي المعاناة الفادحة حين فشل هذا الحب، فيعاني المحب آثاراً نفسية مدمرة، تشبه الآثار الانسحابية لدى مرضى الإدمان... وهكذا دواليك.

بل إن مسألة الهرمونات وتأثيراتها، ربما تأخذ بعداً أكثر خطورة، حين التأمل في حيوات البشر المختلفين، وفي التشكيلة البانورامية التي تنتظم مواهبهم وأخلاقهم، ومن ثمّ نوعية مساهماتهم وإضافاتهم طوال مسيرة الحياة، إن سلباً أو إيجاباً. ولعل تشعبات الخواطر تأخذنا إلى التفكير في نوعية الهرمونات أو الجينات، التي كانت تنسرب في دماء الطغاة والمجرمين أمثال هتلر وصدام حسين وآل كوبون، وتلك التي كانت تنسرب في دماء مصلحين وقادة فكر وعلم، أمثال غاندي ومانديلا وأديسون وآينشتاين؟! أما الفنانون والمبدعون فتلك حكاية أخرى!

إن قراءة سريعة في سير المبدعين من الشعراء والرسامين والموسيقيين، ربما تزودنا بمعلومات مؤكدة عن مراوحاتهم بين حالات الاكتئاب والسوداوية، وتسلط المزاجية، والاستسلام للعزلة والحزن. وكلها دلائل هرمونية تساهم في رفد الموهبة وإشعال فتيلها. وقد يزداد إفراز هذه الهرمونات حدة واطراداً، فتتحول إلى لون من المرض النفسي المستمر، كالاكتئاب والوسواس والفصام. والأمثلة أكثر من أن تُحصى في شتى مجالات الإبداع، نمثل على ذلك بفهد العسكر وفهد بورسلي وحياتهما البائسة، والشابي والسياب اللذين عاشا وماتا عليلين مريضين، وفان غوخ وهمنغواي وخليل حاوي وفرجينيا وولف الذين قضوا منتحرين، وأخيراً وليس آخراً، مي زيادة ونازك الملائكة، واستسلامهما لسوداوية مرضية، أوصلت الأولى إلى المصحة النفسية، والأخرى إلى العزلة التامة إلى حين وفاتها.

في النهاية، لا يبقى غير الذهول أمام هذه الحقائق العلمية، وغير التساؤل الملحّ، عن مدى مسؤولية الإنسان في هذا المعترك النفسي والوجودي، وغير العودة إلى المربع الأول في مسألة العراك الفكري بين "المخيّر" و"المسيّر".

كفانا الله وإياكم شر الهرمونات، وأنعم علينا بخيرها وهباتها.

back to top