شلشاء البقمية و... متلع القبع العتيبي 2/2
كان بإمكاني أن اضع شلشاء البقمية مع بقية الشاعرات اللواتي لهن تجارب تشابه تجربتها، لكني آثرت الكتابة عنها، وحدها إكراما لحبيبها متلع القبع العتيبي!وعندما اقول ذلك لا اقصد التقليل من شأنها، لكن قلة القصائد التي وصلتني عن تجربتها جعلتني اشعر أن مادتي ستكون هزيلة ليس من ناحية «الكيف» بل من ناحية الكم في المادة المقدمة، فهي ليست مثل مويضي البرازية صاحبة التجربة الثرية المتكاملة وليست مثل وضحا الجدعية او مرسا العطاوية او نوره الحمود الظفيرية، وغيرهن من الشاعرات اللواتي بين يدي قصائد لهن تكفي لاعداد دراسة شاملة عن كل جوانب حياة المرأة البدوية.
يا اهل العيرات انا ندرت عيونيهوسلاعني وانا ما لي جلادهجعلكم يا اهل النقيلي تذهبونيما لكم مملوح ميرانه قرادهالعرب لو دون متلع هاوشونيوالله اني لـ تمثل به حسادهفي بداية القصيدة توجه كلامها الى اهل العيرات، جمع عير، وهي الركايب من «البعارين» تؤكد ان عيونها تعبت من كثرة التطلع والانتظار، وهي ترقب الدروب وتتوخى الاخبار ولعلها وجهت الحديث لأهل الركائب راجية ان يحملوا اخبارها اليه او يأتوها بأخباره، وتقول بألم وانكسار الانثى: قد سلا واستطاع الصبر واطال الغياب، بينما هي لا تملك ما يملكه من صبر وجلد، وهي هنا تخالف ما يحاول الكل ان يزرعه في اذهاننا وهو ان الرجل هو الذي لا يصبر على الشوق، وهو الذي يعاني، والمرأة مدللة ظالمة كثيرة الجفاء سريعة النسيان لا تذكر الود، وان الغواني من طبعهن نسيان الغائب عن العين!وتدعو شلشاء في قصيدتها على اهل «النقيلي» الذي ينقلون الكلام اصحاب النميمة والغيبة وتواجههم بمنطق انه ليس لهم مصلحة اساسا من ممارساتهم، وان ما يفعلونه ليس سوى حقد ولعانه «قرادة» وان فعلهم هذا من سوء حظهم بسبب ما يجنيه عليهم من الذنوب، وهنا يمكنني القول إن اهل الحسد فعلوا شيئا من اثنين، اما انهم ملأوا رأس «متلع» ضدها سلا عنها، او انهم اوغروا صدور قومها عليه حتى خاف لقاءها وتجنب رؤيتها دفعاً للشر، ورغم كل ذلك ظلت على موقفها وأكدت ان العرب وهي بهذا التعميم، انما تقصد اهلها ولا تقصد كل العرب، اللفظ هنا «عام للخاص» يفهم من سياق الكلام ومن معرفتنا بالبيئة البدوية واللهجة، واسلوب الحديث عن البدو تؤكد شلشاء انها ستظل تقول الشعر في متلع نكاية بكل عذالها وخصومها، وهذا يدل على شخصية امرأة قوية ليست مستضعفة رأسها.. حلف لا يلين بسهولة ولا يمكن عسف قناعاتها وترويض رؤيتها للحياة أو العلاقة بالرجل.وتختتم ابياتها بأمنية تتمناها كل عاشقة بدوية وهي ان «ينزل» على قومها اهل متلع حتى تتمكن من رؤيته وتقر مشاعرها بقربه ووجوده ولا تريد سوى متلع وقوم متلع والباقي لا يهمونها في شيء.تبلغ معاناة شلشاء قمتها عندما توجه اليها الاقدار رمحاً جعل قلبها يقطر دماً ويتفطر حزناً، واذا كانت من قبل عانت من وقوف الناس ضدها ومنع قومها لها من رؤيته وقول الشعر فيه، فإنها فجأة وجدت نفسها امام واقع مرير بالحرمان الأبدي منه لقد أخذه الموت عندما قتل في احدى الغزوات.رثته بقصائد كثيرة يؤسفني أني لم اقع إلا على هذه الأبيات منها والتي توجهها الى شقيقها «أبو جدي». يا بو جدي قلبي من الود ملهوفوالود هذا من قرادة نصيبيليته يجينا حامي الفطر الجوفلوهو على العيرات ينقل صويبيابا اتمقل منه بالعين واشوفلعل من رجواه نفسي تطيبيفي الأبيات تبكي فارسها المقتول، وتشتكي الى شقيقها، وتوضح له ان الحالة التي هي فيها ليست لعبا او مزحا او عبثا يستحق أن تعاقب عليه بل انها تعيش وضعا فرضته عليها قرادتها وسوء حظها بدليل ما تكابده وتعانيه من العذاب وتتمنى «الأمنية المستحيلة» عودة الميت الى الحياة في قولها «ليته يجينا حامي الفطر الجوف»، وهذه الأمنية خدعة سيكولوجية للهروب من قسوة الواقع ومرارة الحقيقة التي لم تقو على تصديقها، حتى انها تمنّت لو أنها على الأقل شاهدته وهو جريح لعلها تصدق مسألة موته حتى تطيب نفسها منه وتحاول النسيان.وهذه الحالة: عدم تصديق موت الشخص العزيز الذي ينقل ذلك خبر وفاته ولا تحضر جنازته ودفنه تجعل الانسان لا يصدق ولا يريد ان يصدق ان حبيبه الذي تركه سليم معافى يضحك ويتكلم ويشرب ويمشي وله طموح وآمال قد انتهى فجأة، ولم يعد له وجود في الحياة، حالة معروفة لدى علماء النفس، وشلشاء كانت واحدة من الذين رفضوا فكرة موت من يحبون لذلك ظلت تتخليه وتنتظره وتبكي غيابه، وعندما ماتت زوجة احد جيرانها واحست بحزنه عليها وحسرته لفقدها آنست لها صاحبا في معاناتها. وقالت بيتها المعروف:وجدي على متلع كما وجد ابو زيدعلى لطيفة يوم دنوا كفنهاكأنها بهذا البيت ارادت ان تقول للناس انها حتى لو لم تكن زوجة لمتلع فإنه كان كل حياتها، ولا يقل ما تحس به عن احساس اي زوج يفقد شريكة حياته او العكس.من قراءتي وتأملي في معاناة شلشاء البقمية كنت اسأل نفسي لو كان لديها هاتف جوال وبليب وفاكس وسائق يقوم بتوصيلها الى اي «كوفي شوب» لمقابلة متلع هل كانت ستعشقه بهذا الشكل؟ وهل كانت ستكتب بهذ الروح؟ هل الحب والاحساس، والوفاء والعذاب والشوق أسبابه قلة الفرصة لمعرفة شخص آخر؟! اتمنى ان أسمع آراء الشباب والبنات.وبالنسبة لي انا مؤمنة ان الانسان الجميل جميل، والمحب والصادق صادق والروح العطوفة عطوفة مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة والظروف.وأنا شاعرة أؤمن بما احس به الا يقولون «كل يرى الناس بعين طبعه»، أنا أرى الحب بعين قلبي!