اصفهان في صميم الوجدان الايراني
تعد ساحة «نقش جهان» (خريطة العالم) معلماً معمارياً وتاريخياً مجمعاً، وهي حسب تقديرات منظمة اليونسكو من أهم آثار الحضارة الإنسانية، الساحة عبارة فناء مستطيل الشكل يتوسطه حوض ماء ضخم وتحيط بها الأبنية التاريخية المشهورة مثل مسجد الإمام ومسجد الشيخ لطف الله وقصر «عالي قابو».لكل حضارة كبيرة رموز ومعان تشير بها إلى نفسها ويُستدل عليها من خلالها، ولكل دائرة حضارية أوسع مركز تاريخي يحوي أهم آثارها وعمارتها: إشبيلية وقرطبة في الأندلس، وإسطنبول والأناضول في تركيا، وأصفهان في إيران. مدينة أصفهان لا تشبه غيرها من المدن الإيرانية الكبرى مثل طهران أو شيراز أو يزد أو حتى مدن الشمال الإيراني، لأن أصفهان هي خزنة الوجدان الإيراني بالرغم من أنها ليست العاصمة حالياً ولا هي المركز التجاري الأكبر في البلاد وسكانها ليسوا حتى الأكثر عدداً بين المدن الإيرانية. تستمد أصفهان أهميتها أساساً من عاملين هما التاريخ والعمارة. يحل التاريخ ويتجسد في عمارة أصفهان الفريدة؛ حتى وكأن هذه العمارة تحمل تاريخاً عريقاً ممتداً لمئات كثيرة من السنوات على أجنحتها. في كل مرة تسنح لي فرصة زيارة أصفهان أُمنّي النفس بزيارة معالمها عارفاً أن الوقت مهما اتسع لن يكفي للوقوف على المعاني والرموز الكامنة في تفاصيل الوجدان الأصفهاني، وأن الأمر سيتطلب زيارات أخرى، وهو ما أتثبت من صحته كل مرة أيضاً!يعتبر مسجد الشيخ لطف الله من أشهر مساجد أصفهان، وبالمناسبة الشيخ لطف الله من علماء جبل عامل في لبنان، هاجر من قريته ميس الجنوبية إلى خراسان في شمال إيران على عهد الشاه عباس الصفوي لتوطيد أركان المذهب الشيعي في إيران بعد أن أعلنه الصفويون مذهباً رسمياً لإيران في 1501. يبدو المسجد تحفة فنية فريدة، فاللون العاجي الذي يكسو قبته يخطف قلبك مثلما تفعل الخطوط الجميلة التي كُتبت بها الآيات القرآنية المزينة على جدرانه. وعلى الرغم من مرور أكثر من 350 سنة على بناء الجامع، فإن ألوانه الزاهية لم تزل على حالها تخلب الناظرين. لا تفوت الزائر فرصة زيارة قصر «هشت بهشت» (الجنات الثماني)، والواقع بالقرب من طريق جهار باغ في مقابل طريق شيخ بهائي، شيد القصر في فترة حكم الشاه سليمان الثاني الصفوي في القرن السادس عشر، ويتميز بأسقفه المحلاة بالرسوم الخلابة والمشغولات القرميدية. على جدران القصر تنتصب الموسيقيات الإيرانيات الحسان وهن يعزفن على الآلات الموسيقية الإيرانية التقليدية، وهذا الرسم بالتحديد صار مرادفاً للقصر في الذاكرة الجمعية لمحبي أصفهان. أما التحفة التي يعتبرها سكان أصفهان رمز مدينتهم فهي قصر «عالي قابو»، الذي أقامه الشاه عباس الأول الصفوي، ويتألف القصر من ستة طوابق متمركزة على 18 عموداً خشبياً منحوتاً بفن وذوق رفيعين، ويتوسط القصر نافورة رائعة. كان القصر مخصصاً في العصر الصفوي لاستقبال السفراء من الدول المختلفة، ويتميز بالنقوش والزخارف، ومن شرفة القصر أمكن للشاه مشاهدة مباريات البولو التي كانت تقام في الميدان.تتمثل المفارقة في هذا الأثر المعماري الكبير في أن غرف القصر الداخلية أكثر روعة وبهاء من مظهره الخارجي. تلاحظ الجدران وقد طليت بماء الذهب ورسم عليها المنمنات بأشكال الزهور، وتكتشف أن قصر «عالي قابو» يبدو من الخارج وكأنه طابقان، لكنه يحتوي على سبعة طوابق في الواقع. تقع صالة الموسيقى في الدور الأخير من القصر، وهي مصممة بشكل فريد بحيث توفر صدى صوت مميزاً للعازفين. ويعتقد الإيرانيون أن الموسيقيين كانوا يدخلون إلى غرفة الموسيقى؛ فيعزفون ثم يغلقون الباب من خلفهم وعندما يأتي الشاه عباس ويجلس في الصالة فإن صدى الصوت يعيد الأنغام التي عزفها الموسيقيون ليستمتع بها الشاه مع صحبته!تنتقل إلى قصر «جهل ستون» (قصر الأعمدة الأربعين) في منتصف جولتك الأصفهانية، لا يحتوي القصر سوى على عشرين عموداً، ولكنها تنعكس على صفحة المياه مقابل القصر فيخال الناظر عددها أربعين. القصر لعب دوراً كبيراً في تاريخ إيران، إذ صمم في البداية كاستراحة للشاه عباس الثاني، ولكن الأمر تطور لاحقاً إلى أن أصبح «جهل ستون» هو مجلس العرش الصفوي. ولا تقتصر عجائب أصفهان على صالة الموسيقى، بل هناك أيضاً «منار جنبان» (المنارة المتحركة)، والتي تتألف من منارتين متقابلتين تهتز إحداهما عندما تهتز المقابلة لها إذا هزها الإنسان، وهو سر مازال مغلقاً حتى اليوم ولا يعرف السبب المعماري في حدوث ذلك. تعد ساحة «نقش جهان» (خريطة العالم) معلماً معمارياً وتاريخياً مجمعاً، وهي حسب تقديرات منظمة اليونسكو من أهم آثار الحضارة الإنسانية، الساحة عبارة فناء مستطيل الشكل يتوسطه حوض ماء ضخم وتحيط بها الأبنية التاريخية المشهورة مثل مسجد الإمام ومسجد الشيخ لطف الله وقصر «عالي قابو». تنتشر الجسور في أصفهان على نهر زاينده رود، وهي تمتاز بروعة المنظر والتصميم، وتتضمن جسور أصفهان غرفاً يستريح فيها المتنزهون، حيث يقضون نهارهم في الغناء. وطبيعي أن تجد الإيرانيين جالسين في غرف الاستراحة متحلقين حول أحد المغنين، وما أن ينتهي أحدهم من الغناء حتى يشرع الآخر فيه. من هذه الجسور الشهيرة «جسر شهرستان»، وهو جسر تاريخي شهد اغتيال الخليفة العباسي الرشيد بالله الذي قتل عام 1138 ميلادية. «جسر سي وسه بل» (جسر الثلاثة وثلاثين قوساً) يعد أهم جسور أصفهان، ويشتهر بوجود غرفة رائعة لتقديم الشاي بين الأقواس. رافقت صديقي الأستاذ الجامعي الإيراني الدكتور علي بختيار بور إلى جسر «بل خواجو»، الذي يتخذ اسمه من ضاحية «خواجو» (الكاتب) على الضفة الشمالية من نهر زاينده رود. يربط الجسر الضفة الشمالية للنهر بالجنوبية، وتشبه عمارة الجسر مثيلتها في جسر «سي وسه بل»، حيث شيد على طابقين ويبلغ طوله 110 أمتار وعرضه 20 مترا، وثمة درجات تؤدي إلى الطابق الثاني، حيث يلتقي المتنزهون والمغنون. تستمتع بالمكان وبارتباط سكان أصفهان به تجلس على المقاعد الحجرية العتيقة والنظيفة بالقرب من رجب في نهاية الخمسينيات من عمره، يرحب المغني بك ويبدأ في إنشاد بيت من أبيات شاعر إيران الكبير حافظ:إذا قسموا الأزل في غيابنا/ ولم تنل القسمة رضاك/ فليس بوسعك إلا أن تقبلها!تلملم أوراقك وتحزم أمتعتك للسفر إلى طهران، تجلس في السيارة متوجهاً إلى المطار وعيناك تتجولان في شوارع المدينة مودعاً إياها عارفاً تاريخها وقدرها: «خدا حافظ» (في أمان الله) أصفهان!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليميةوالاستراتيجية-القاهرة.