رحلة بكاء

نشر في 07-05-2010
آخر تحديث 07-05-2010 | 00:01
 أحمد مطر في غرب محلتنا كان يربض سدّ ترابي يبدو لنا بالغ الارتفاع عندما ننظر إليه ونحن في منخفض المحلة، لكننا حين بلغناه للمرة الأولى اكتشفنا كم هو شاهق الاحتيال. الحاجة الملحة إلى البكاء هي التي هدتني وصاحبي علي الى اكتشاف الخدعة، ولم يكن اتفاقنا في الحاجة صدفة، فقد كان كلانا مثقلاً بوجع الرسوب، وكانت في صدر كل منا حرقة لا يعرف كيف يطفئها ولا كيف يفر منها.

الدوائر الثلاث الحمراء، في شهادة امتحان نصف السنة، كانت الأثافي التي ينتصب فوقها مرجل الرعب بالنسبة إلى علي، ذلك لأن أباه ذا الشارب المبعثر على نصف وجهه بعبثية نبات شيطاني، كان يحتفظ لهذه المناسبة بخيزرانة رشيقة تعوض باستقامة عودها عن بعثرة شاربه. ولأنني أعرف، بوقائع التاريخ، أن دوائر شهادة علي الحمراء لا بد من أن تلتقي بخطوط خيزرانة أبيه الزرقاء، فقد كنت أتفهم جيداً معنى هلعه، وأقدر تماماً شدة حاجته الى التفريغ.

أما دوائري أنا، فقد كانت مثل أحجار صغيرة جداً تتحرك في باطن حذائي. هي لا تجرح ولا تؤذي، لكنها، مع ذلك، تعرقل خطاي وتنغص علي مشيتي. فأبي ذو الشارب المرتب بهندسة موفقة، لا يحتفظ بخيزرانة، ولا يستخدم كفه، لكنه يستعيض عن ذلك كله بنظرة منكسرة وهزة رأس مفعمة بالأسى والشعور بالخسران، الأمر الذي كان يبسط على روحي غلالة حالكة منسوجة من أشواك الشعور بالذنب والخيانة والخزي معاً.

قال علي: لن أذهب الى البيت... أعرف أن تأخري سيضاعف الجلدات، لكن ليس أمامي، ما دمت سأضرب في الأحوال كافة، إلا أن أستفيد من فسحة التأجيل.

قلت له، وقلبي مثقل بالمرارة: لا تأمل بأن أقول لك تعال معي. فالعذاب الذي ينتظرني هناك أشد وطأة. إنني أفضل أن ألقى في قعر الجحيم، على أن أتقلب مخزياً على أرجوحة رأسه المهتز أسفاً. كلا... لن أذهب الى البيت.

كانت خطواتنا هي التي توجه ذاتها، مثل حمير مدربة، وكنا نعلم أننا إذا تركنا لها القياد فستحملنا عاجلاً على الطرق التي تعودتها، لذلك فقد توقفنا في منتصف المسافة بين المدرسة وبيتينا.

تساءل علي بما يشبه الحشرجة: ماذا سنفعل؟

ولم تكن لدي إجابة، لكنني هتفت بوجع} أشعر بحاجة كبيرة إلى البكاء.

وكأن صوت علي كان صدى لصوتي، فقد رد وفي حسبانه أن ما قلته هو إجابة لتساؤله: البكاء... هو ما أحتاج إليه فعلاً.

وران علينا الصمت، ونحن لا نزال واقفين. لم أدر ماذا أقول بعد ذلك، ولم يسعفني صاحبي بأي أساس جديد أبني عليه، لذا وجدتني أعيد ما قلته بصيغة ملتوية وبالغة السخف: البكاء دواء للجروح... علينا أن نبكي.

وخرج علي من شرنقة بؤسه: هنا؟ أمام الرائح والغادي؟ ماذا سنقول للناس إذا سألونا عما يبكينا؟ ستكون فضيحة.

قلت بلا تردد: نذهب الى ما وراء السد. هناك سنبكي على راحتنا، وليكن بعد ذلك ما يكون.

ووافق فوراً، فأمسكنا بزمام خطانا، وقدناها نحو ذلك الساتر الترابي الرابض في غرب المحلة.

كان ارتقاء السد عذاباً حقيقياً. اذ لم نكن لنبلغ منتصف المسافة حتى يسقط كتاب من كتبنا، فننحدر لالتقاطه، ثم نعاون الصعود... واستغرق الأمر أكثر من ساعة حتى بلغنا الحافة. وعندئذ سمعت صرخة علي الذي سبقني في الإطلالة: لقد خدعنا... هذا ليس سداً، إنه مجرد جرف!

واستوينا واقفين ننفض التراب عن ملابسنا، ونلفظ أنفاس الخيبة.

لم يكن ثمة منحدر من الناحية الأخرى. كان ظاهر السد ينبسط في مستوى مديد متعلقا بذوائب الصحراء.

صاح علي مجدداً: أين نختبئ؟ إننا الآن واقفان على خشبة مسرح... كل من تحتنا يرانا حتى إذا لم يرد أن يرانا. نحن النتوءين الوحيدين في هذا الأفق.

حك رأسه حائراً، وعاد يجأر: ليس أمامنا إلا أن نوغل في الصحراء مثل مجنون ليلى... ولا أدري كم سينبغي لنا أن نبتعد لنختفي عن الأنظار.

صحت به وأنا أكاد أقع من فرط الإرهاق: كفى. ماذا يعنينا من الأنظار؟ لا أحد سيميزنا على هذا البعد، ولن يعلم أحد إذا كنا نبكي أم نغني. دعنا نجلس. لقد بلغنا هذه الغاية حتى نفرج عن كربتنا... فلنفرج عن كربتنا، إجلس.

بعد تلك المشقة، كان الجلوس ممتعاً حقاً. قعدنا متواجهين، نزفر بارتياح، واضعين أكفنا فوق ركبنا، ومسبلين أجفاننا باطمئنان، وكأننا نسختان من تمثال بوذا.

مضى الوقت علينا ونحن على هذا الوضع، وما أن أخذنا كفايتنا من الراحة حتى فتح كل منا عينيه على اتساعهما، وراح يحدق في الآخر.

قلت: لنبك الآن.

ردد معي: لنبك.

وبقينا واجمين كقطعتي بؤس. وبعد دقائق من الحيرة، زفر متذمراً: لا أعرف كيف.

قلت له مواسيا نفسي: أنا مثلك. لكن لنحاول. دعنا نتصنع البكاء أولاً. دعنا نستغفل القهر فنجره من ذيله، وعندئذ سيجر معه الدموع فعلاً.

هز يده ساخطاً: نجره من ذيله؟ أهو قهر أم حمار؟!

قلت له بهدوء: وسع خيالك يا أخي... جرب أن تعصر عينيك الى أقصى حد، حتى تصير كأنك ياباني أعمى، واقبض عضلات وجهك حتى يصبح أقبح مما هو في العادة، ثم حاول أن تتخيل شيئاً محزناً.

سألني مستنجداً: مثل ماذا؟

قلت: يا أخي تخيل. لنقل مثلاً إن أباك قد مات.

رأيت وجهه يكفهر، وبدا لي أنه قد أصبح مهيأ للبكاء فعلاً، لكنني لرداءة طبعي، أفسدت الأمر حالاً، عندما تدخلت بثرثرة لا ضرورة لها في وصف مراسم التشييع: وها هم، الآن يشيعونه أمامك في تابوتين... واحد له، والآخر لشاربه.

زالت في الحال تقلصات وجهه، وابتسم عاضاً على شفته السفلى، ثم تطوع لترتيب جنازة أبي: والمرحوم أبوك سيجد الى جانب تابوته تابوتاً رشيقاً يضم مسطرة ومقصاً، كي يتمكن من تنسيق شاربه في عالم الأرواح.

وتبادلنا ضحكة فجة. لقد كان في داخل كل منا رفض قاطع لتخيل مثل هذا الأمر، وشعور حاد بالنذالة لأننا لم نتورع عن معالجة محنتينا بمصيبتين.

قلت له: لندع أبوينا خارج الموضوع... ولنحاول أن نتذكر فيلماً هندياً.

ارتفعت زاويتا فمه ورسمتا هلالاً رفيعاً، لكنه سرعان ما انشق عن هوة عميقة حمراء داكنة، يلتمع على محيطها طوق أسنانه.

طفق يضحك كالمجنون، محاولاً عبثاً أن يشرح أسبابه. كان يختنق بين شهيق وزفير، وبصعوبة استطاع أن استرداد أنفاسه، ليغرد: شاهدت فيلماً هندياً، ضيّع فيه رجل أطفاله الثلاثة، فتاه كل واحد منهم في طريق، لكنه في آخر الفيلم عثر عليهم جميعا بعد أن أصبحوا شباناً... تصور كم هي ضيقة هذه الهند!

زجرته وقد زايلتني الرغبة في البكاء: دعك من هذا... ركز على مشهد لقاء الأب بأولاده بعد هذا العمر. إنه مشهد كفيل باستدرار دموع الحجر.

انقطعت أنفاسه ثانية، وراح في سكرته يلطم فخذيه بحرارة: هذا المشهد بالذات كفيل بإضحاك الموتى. البكاء نفسه لن يستطيع أن يبكي إذا اكتشف في آخر عمره أنه قد خرجت من صلبه ثلاثة أديان!

سألته بلهفة وأنا أشعر بالهلال الرفيع المرتسم على شفتي يجاهد للتحول الى بدر: كيف؟ قال: لقد تبين أن كل واحد من الأخوة قد اعتنق دين من عثروا عليه وتبنوه، فالأول هندوسي، والثاني مسلم، والثالث مسيحي. ومن الأسف أن الرجل لم يضيع طفلاً رابعاً ليكون سيخياً، لذا فإن الوحدة الوطنية الهندية بقيت ناقصة. وللمناسبة لم يكن الأخوة يعرفون أنهم أخوة، لكنهم لحسن الحظ كانوا مرتبطين بعهد صداقة وثيق.

وعلى الفور اكتمل هلالي بدراً. ضحكنا، وضحكنا، وضحكنا، ومن عجب أن دموعاً كثيرة قد جرت من دون حاجة إلى ذيل.

وعندما آذنت الشمس بالمغيب، تركنا أنفسنا ننحدر من على حافة السد الكاذب، وانطلقنا لملاقاة أقدارنا الصادقة.

back to top