العهد الزاهر


نشر في 30-07-2010
آخر تحديث 30-07-2010 | 00:01
 أحمد مطر تناقشت مع المدير، هذا الصباح، حول خرائط المبنى الجديد. لم يعجبه الشكل الهندسي الذي وضعته للكافيتريا الملحقة بالمبنى.

سألني بازدراء ما هذا؟!

قلت له موضحاً: قدّرت أن تصميم الكافيتريا على شكل شبه منحرف سيوفّر في مادة البناء من ناحية، وسيجعلها أكثر حميمية ودفئاً من ناحية أخرى.

صاح محتجاً: إخرس يا وغد. لا مكان. في هذا العهد الزاهر، للانحراف أو شبه الانحراف. هذه المباني لا توجد إلا في عهد الاستعمار. إذهب ونظّف أفكارك، واحذر أن تلوث الخريطة ثانية بأي شكل من أشكال العمالة والرجعية. أخرج.

خرجت مكفهراً. لاحظ رئيس القسم علامات الضيق على وجهي.

سألني: ماذا حصل؟

قلت له: يبدو أن المدير منحرف المزاج هذا اليوم.

صرخ في وجهي: إخرس يا وغد. لا تصف المدير بمثل هذا الوصف القبيح... لقد ولّى الانحراف مع عهد الاستعمار البغيض. مديرنا رجل وطني مخلص وأمين.

قلت مدافعاً عن نفسي: إنني أصف مزاجه فحسب. لقد عاملني بمنتهى العنف لأتفه سبب.

قال رئيس القسم: بإمكانك، إذن، أن تقول إنه عنيف... خليق بمدير وطني مثله أن يكون عنيفاً في زمن العنف الثوري.

أستأذنت لمراجعة الطبيب. طلبت سيارة أجرة، قلت للسائق، وأنا أشير الى مدخل العمارة التي تقع فيها العيادة: انحرف الى اليمين رجاء.

أوقف السائق سيارته فجأة، والتفت إلي معنفاً، إخرس يا وغد. إنني سائق وطني مخلص من زمان الاستقلال. قد أستدير ألف مرة، لكنني لن أنحرف ولو ذقت الموت. لقد ولّى زمان الانحراف مع أسيادك المستعمرين. إنزل هنا. لقد لوّثت سيارتي.

قطعت المسافة المتبقية سيراً على قدمي. وصلت الى العيادة وأنا ألهث، لبس الطبيب ابتسامته وسألني: مم تشكو؟

قلت: أشكو من انحراف في الصحة يا دكتور.

نزع الطبيب ابتسامته فوراً وضرب الطاولة بجمع كفه: إخرس يا وغد، الصحة لا تنحرف في هذا العهد الزاهر... الصحة قد تمرض، قد تسوء، قد تنعدم، لكن أن تنحرف فلا وكلا ولن.. لقد ولّى الانحراف مع جلاوزة الاستعمار. أخرج من عندي، فأنا لا أعالج العملاء أمثالك.

خرجت من العيادة مثقلاً... مشيت كالنائم، كانت شاحنة مسرعة قد انحرفت عن الخط واندفعت قاطعة الرصيف في اتجاهي. قفزت مبتعداً عن طريقها بكل ما أستطيع من سرعة ونجوت بأعجوبة.

خرج بائع الخضار الذي ارتطمت بصناديق دكانه.

سألني بهلع: ماذا حصل؟

فكرت هذه المرة قبل أن أجيب.

قلت له: لقد استقامت الشاحنة عن الطريق وكادت تدهسني.

قطّب البائع حاجبيه وقال: استقامت عن الطريق؟ ماذا تعني؟

قلت وأنا أنهض مبتعداً كما قلت لك. لا تجرجرني بالكلام كل شيء مستقيم في هذا العهد الزاهر، الشاحنات لا تنحرف عن طريقها، إفهم هذا جيداً.

صفّق البائع بكفّيه ثم رفعهما عالياً: اللهمّ أكفنا شرّ الجنون.

لامسني على الرصيف المقابل طنّ من الأصباغ متنكّر بهيئة امرأة كانت شفتاها تؤرجحان العلكة ببطء واتساع، غمزتني وشقت حلقها ضاحكة.

تجاهلتها لكنها لم تتجاهلني، مشت بإزائي وهي تصفر ثم لم تلبث أن قرصتني بلطف، وسألتني بلهجة مذيعة فضائية: ما رأي بعض الناس في الحب؟

رددت بسأم: ماذا تريدين مني؟

قهقهت برقاعة وصفعت كتفي، أريدك كلك.

ابتسمت بمرارة: هذه إرادة مكلفة.

قالت: أقبل بأي مبلغ تدفعه.

شعرت بالحرارة تشوي وجهي: ماذا تقولين؟

قالت: بأيّ مبلغ.

صرخت بوجهها: أنت عديمة الأدب.

ضحكت بلا مبالاة: هذا صحيح. أنا منحرفة.

استوقفتها محققاً: ماذا؟

قالت بكل ثقة: أنا منحرفة.

صرخت بكل قوتي: إخرسي يا وغدة. لا تنطقي بمثل هذا الكلام القبيح. قولي إنك عاهرة. عاهرة وطنية مخلصة من زمن الاستقلال. لا توجد عاهرة منحرفة في هذا العهد الزاهر. الانحراف ولّي مع الاستعمار.

back to top