اوباما: حدود القدرة وأبعاد المصلحة

نشر في 05-07-2009
آخر تحديث 05-07-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد تناول الكتّاب والمفكرون العرب كلمة الرئيس أوباما إلى العالم الإسلامي التي وجهها من القاهرة على تنويعات مختلفة، من الخطاب السياسي المختلف عن سلفه، ومن الانحياز الأميركي التاريخي إلى «إسرائيل» وحتى عملية السلام المرتقبة، لكن أحداً لم يتناول حتى الآن أهمية الكلمة من منظور ثنائية القدرة والمصلحة.

انشغل الجميع بالمقارنة بين الرئيسين أوباما وبوش شخصياً وإيديولوجياً وعرقياً حتى، وتناست الأغلبية أن كليهما رئيس منتخب للولايات المتحدة الأميركية يحتم عليه واجبه الدفاع عن مصالحها، بحيث تتوقف حدود قدرته عند الخطوط الحمراء لمصالحها.

ومع حضور الفروقات على اختلاف أصنافها بين الرئيسين بوش وأوباما، ينبغي مع ذلك التذكير بأن مصالح الدول تظل ثابتة في خطوطها العريضة، بينما الإيديولوجيا هي التي تتغير، وإذ ذهب البعض إلى اعتبار الرئيس الأميركي باراك أوباما ممثلاً لمجموعات مصالح في الولايات المتحدة الأميركية وأنه يعبر عن مصالح هذه المجموعات بالتحديد؛ فالمنطق المضمر لهذه الفرضية يقول إن أوباما سيمثل استمراراً للتوازنات نفسها التي تحكمت في سلوك أسلافه، بغض النظر عن قناعاتهم الإيديولوجية، بسبب تحكم مجموعات المصالح في السياسة الأميركية.

وعد الرئيس أوباما بفتح صفحة جديدة مع منطقتنا بعد أن شدد في كلمته المذكورة على احترامه للإسلام، وأن إدارته قد تكون في وارد الاشتباك مع جماعات متشددة تنسب نفسها إلى الإسلام زوراً وليس مع الدين الحنيف بأي حال، وضمن مقتضيات الصفحة الجديدة تندرج طبعاً عملية السلام «الميتة» في عهد سلفه، وهي تجسد أكبر المآخذ على السياسة الأميركية من شعوب المنطقة على اختلاف مشاربها العقائدية، وبغض النظر عن الرغبة أو الجدية في طرح أوباما، يجب علينا أن ننظر إلى الأمور من منظوره هو حتى نستطيع قراءة سياسته القادمة في المنطقة بشكل موضوعي، بحيث لا يضع التفكير بالأمنيات نظارة تحجب الرؤية الحقيقية.

كانت المنطقة المشكلة من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومازالت، رقماً صعباً في معادلات السياسة الدولية منذ زمن بعيد. وتضم هذه المنطقة الموسعة، التي تمثل منطقة حيوية للمصالح الأميركية الكونية حوالي 300 مليون مسلم، يجب على رئيس الولايات المتحدة الأميركية أن يتعامل -حتى بحكم المصالح المجردة- معها ومعهم، وهنا لا تلعب رغبات الرئيس الدور الأكبر في توجيه دفة السياسة تجاه المنطقة، بل المصالح الوطنية الأميركية بأبعادها المختلفة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.

وحتى نستطيع أن نستوعب أهمية المنطقة للقوة العظمى الوحيدة الباقية، أي أميركا، يجب الانطلاق من إلقاء الضوء على المنطلقات الأساسية لعلماء الجيوبوليتيك الأميركيين وصولاً إلى النظر في الأدبيات التي تؤثر في تشكيل تصورات الرؤساء الأميركيين، هنا يمكن أن نسوِّق اثنين من أهم المفكرين الاستراتيجيين مثالاً على هذا التأثير: الأول هالفورد ماكندر والثاني زبغينو بريجينسكي.

قام العالم الجغرافي الشهير وعالم العلوم السياسية هالفورد ماكندر في عام 1904 بتأليف الكتاب الشهير «المحيط الجغرافي للتاريخ»، وهو أحد أشهر كتب الجيوبوليتيك في العالم، وفي الكتاب ظهرت نظرية ماكندر الشهيرة «قلب الأرض» إلى الوجود، التي يمكن تلخيصها في متوالية سببية كالتالي: «من يحكم شرق أوروبا يحكم قلب الأرض، ومن يحكم الأخير يحكم جزيرة العالم وبالتالي يحكم العالم كله»، كانت نظرية ماكندر تتصادم مع المقولات الانطلاقية الإنكليزية القاضية بالسيطرة على الطرق البحرية لضمان السيطرة على العالم، ولذلك تأسس التصادم الفكري بين النظريتين على قاعدة أن «القوى التي تسيطر على أوروآسيا يمكنها مهاجمة مستعمرات القوة البحرية» كما اعتقد ماكندر بشدة، وأوروآسيا هي هنا المنطقة الواقعة بين شرق أوروبا في الغرب وآسيا الوسطى والقوقاز في الشرق، والكلمة مشتقة من أوروبا وآسيا للدلالة على منطقة التماس بين القارتين، لكن تقديرات ماكندر المتواضعة عن أهمية الجزيرة العربية دخلت ساحات الانتقاد لنظريته من أوسع أبوابها، إذ لم يفسح ماكندر العظيم أهمية كبيرة للجزيرة العربية في خريطة الاستراتيجية العالمية، كما أنه عانى مركزية أوروبية مفرطة، وبسبب الاحتياطات الهائلة من النفط والغاز في الشرق الأوسط لا يمكن لأي قوة عظمى أن تدعي أنها كذلك، من دون امتلاك تصور للتعامل بفعالية مع هذه المنطقة أو وضعها في بيئتها الأمنية والاستراتيجية.

ألقى زبغينو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي لكارتر والمستشار غير المعلن للرئيس أوباما، في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» الذي ألفه عام 1997 الضوء على أهمية منطقة أوروآسيا للولايات المتحدة الأميركية. وقال بريجينسكي متأثراً بشدة بما كتبه ماكندر من قبل «انتقل علم الجيوبوليتيك من البعد الإقليمي إلى البعد الكوني، مع وجود أهمية استثنائية لمنطقة أوروآسيا في المصالح الكونية الأميركية، أميركا باعتبارها قوة لا تنتمي إلى أوروآسيا تمدد سيطرتها إلى الحواف الثلاث لمنطقة أوروآسيا والعدو المحتمل لأميركا في أي سياق تنافسي دولي قادم لابد له أن يسيطر على منطقة الأوروآسيا، وهكذا يتوجب على أميركا أن تمنع أياً من القوى الكبرى روسيا أو الصين أو القوى الإقليمية الصاعدة مثل إيران وتركيا من السيطرة على منطقة الأوروآسيا.

منذ الحرب الباردة سيطرت أميركا على ما أسماه بريجينسكي «رؤوس الجسور القارية» أو continental bridgeheads حتى تستطيع احتواء الاتحاد السوفييتي ومنع تمدده، كانت منطقة الشرق الأوسط ومازالت رأس الجسر الكبير إلى الجنوب من أوروآسيا، ومساعدة أميركا للمجاهدين الأفغان لم تأتِ دفاعاً عن حرية الشعوب، بل لتحجيم الاختراق السوفييتي نحو المياه الدافئة في الجنوب حينئذ، وكل تدخلات أميركا في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة كانت بهدف احتواء وعزل الاتحاد السوفييتي، بما في ذلك الانقلاب الذي وقع على الزعيم الإيراني محمد مصدق وحكومته المنتخبة ديمقراطياً عام 1953 والانقلاب على الوحدة المصرية-السورية 1961 ثم حرب عام 1967 وما تلاها من تدخلات.

مازال رأس الجسر للمصالح الأميركية في المنطقة قائماً، أي «إسرائيل»، التي تحتفظ بأقوى ترسانة سلاح بين دول المنطقة. وبالإضافة إلى رأس الجسر المذكور تملك واشنطن قواعد عسكرية في مناطق شتى على امتداد الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حتى مع وجود إدارة ديمقراطية منفتحة في واشنطن (أوباما)، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة ستستمر في الوجود العسكري بالمنطقة، وأنها يمكن جداً أن تستخدم قوتها الصلبة للدفاع عن مصالحها إذا تطلب الأمر ذلك، ومع الإعجاب بالرئيس الأميركي وشخصيته الساحرة وتغليبه عناصر القوة الأميركية الناعمة في خطابه السياسي، لكن المصلحة الوطنية الأميركية بأبعادها المختلفة -وليس غيرها- هي التي ترسم حدود قدرة الرئيس الأميركي على التغيير!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة 

back to top