ما قل ودل: رحيل سقراط العصر د. نصر أبوزيد

نشر في 18-07-2010
آخر تحديث 18-07-2010 | 00:01
 المستشار شفيق إمام أثار رحيل المفكر العربي الكبير د. نصر أبوزيد، الذي وافته المنية في الخامس من الشهر الجاري الأسى والألم في نفوس أوساط المثقفين في مصر والعالم العربي، سواء من اختلف معه أو ناصبه العداء أو أيده ودافع عن حقه وحريته في البحث العلمي والتعبير عن رأيه، منذ أن أثارت أبحاثه العلمية التي قدمها في الجامعة عام 1994 لترقيته إلى درجة أستاذ ضجة كبيرة، بسبب التقرير الذي قدمته اللجنة العلمية المشكلة في الجامعة لفحص إنتاجه العلمي، وهو التقرير الذي انتهى إلى تكفيره وفصله من الجامعة، وكان من تداعيات رفع دعوى حسبة أمام إحدى المحاكم المصرية للتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي بالجامعة، وصدور الحكم بالتفريق بينهما، لأنه كافر ولا يحل لكافر أن يتزوج مسلمة.

وكان قد أثار حضوره إلى الكويت لإلقاء محاضرة فيها، بدعوة من أحد المنتديات الثقافية، ثائرة بعض النواب في مجلس الأمة، الذين هددوا بتقديم استجواب إلى وزير الداخلية، إذا سمح له بدخول الكويت، وأصدرت جهات الأمن قرارها بمنعه من الدخول، بعد وصوله إلى مطار الكويت، فقفل راجعاً إلى مصر.

وكان الدكتور نصر أبوزيد يقول، إن كل من عارض فكري أو حاربني لم يقرأ كتبي، وإن أغلب من أيدوني لم يقرؤوها كذلك.

وكنت واحداً من هؤلاء الذين دافعوا عن حريته في البحث العلمي، قبل أن أقرأ كلمة واحدة مما كتبه، في مقالين نشرتهما لي صحيفة "القبس" في عدديها الصادرين في 5 و12-7 - 1995، بعنوان "محاكمة فكر أم محاكمة مرتد".

تطبيق المادة الثانية من الدستور

وقد قلت في المقال الأول وفي سياق تعليقي على الحكم الصادر من المحكمة بالتفريق بين د. نصر أبوزيد وبين زوجته، والذي استند إلى المادة الثانية من الدستور المصري في ما تنص عليه من أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، أن المشرع وحده المخاطب بأحكام هذه المادة وليس القاضي، وأن المحكمة التي قضت بالتفريق بين الزوجين في دعوى حسبة لا يعرفها القانون المصري الوضعي، وبالردة التي لم ينص عليها هذا القانون قد نصبت نفسها مشرعاً، وحكمت بما شرعته.

وسقنا للتدليل على ما قلناه المبدأ الذي أرسته المحكمة الدستورية العليا في تطبيق المادة الثانية من الدستور، حتى بعد تعديلها في الاستفتاء الذي جرى في عام 82 لتصبح "المصدر الرئيسي للتشريع" وليس أحد مصادره، وهو المبدأ الذي يقضي بأن القاضي غير مخاطب بهذه المادة، وعليه أن يطبق القوانين الوضعية كما هي، إلى أن تعدل أو تلغى من السلطة التشريعية.

 

د. نصر لم يرتد عن الإسلام:

وفي معرض حديثي عن الأحكام القضائية التي صدرت في مصر بتطبيق أحكام الردة، والتي أشرت إليها في مقالي الأول، قلت إنها جميعاً طبقت أحكام الردة على أشخاص أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام فعلاً، وأفصحوا عن إرادتهم في ذلك بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة فيما اطمأنت إليه ضمائرهم وسكنت إليه نفوسهم، أما الحكم الذي صدر في حق د. نصر أبوزيد بارتداده، فقد صدر على غير محل، لأن د. نصر أبوزيد لم يعلن ارتداده عن الإسلام، ولم يفصح عن إرادته في ذلك، من خلال إقرار رسمي أو قضائي صادر منه يعلن فيه ارتداده عن دين الإسلام، وغالباً ما يكون ذلك لتحقيق أغراض قانونية خاصة.

المفاجأة التي فجرها د. نصر في هولندا:

قد رفض النطق بالشهادتين أمام المحكمة التي أصدرت الحكم سالف الذكر، بالرغم من أنه قرأ البسملة ونطق بهما في أول محاضرة ألقاها في جامعة ليدن بهولندا، بعد تركه مصر إثر صدور هذا الحكم القاضي بردته، ليعمل في هذه الجامعة أستاذاً زائراً بها، فقد كانت أوربا كلها وجامعة ليدن- بصفة خاصة- التي اختارها من بين جامعات العالم ليستكمل رسالته في البحث العلمي الذي وهب نفسه له، في انتظار هذا الباحث المسلم في الدين الإسلامي، المرتد عن هذا الدين، ليسمعوا رأيه فيه، ويروجوا لأفكاره، كما فعلوا مع الباحثة الصومالية المسلمة أيان هيرسي التي حصلت على أعلى الدرجات العلمية من هولندا بعد لجوئها إليها سياسيا لتهاجم الإسلام، بعد أن أعلنت ارتدادها عنه، وألفت كتاباً يشوه الإسلام ويصوره على غير حقيقته، على أنه دين متخلف، والتي أصبحت عضوا بالبرلمان الهولندي.

فقد كانت المفاجأة الكبرى للأوساط العلمية وغيرها في أوروبا أن الرجل الذي قضت محكمة مصرية بردته عن الإسلام، لم يخرج من عباءة هذا الدين، معتزا بإسلامه مدافعاً ومناضلاً عنه، ولو كان خارج الأراضي الإسلامية.

لا عودة إلى محاكم التفتيش:

ويروي الدكتور الراحل أنه رفض النطق بالشهادتين أمام المحكمة، متحملاً ما سوف تصدره المحكمة من حكم بارتداده عن الإسلام، وبالتفريق بينه وبين زوجته، وبالرغم من أنه قرأ البسملة ونطق بالشهادتين في أول محاضرة ألقاها في أوروبا لأنه كان يرفض عودة محاكم تفتيش القرون الوسطى التي كانت تراقب ضمائر الناس وسرائرهم، والعقيدة هي جزء من هذه السريرة.

ومن هنا كانت محاكمة نصر أبوزيد أشبه بمحاكمة سقراط الفيلسوف العظيم الذي اتهمته أثينا بالهرطقة، عندما توسل إليه تلاميذه بأن يقول ما أراد جلادوه أن يقوله في المحكمة التي عقدت لمحاكمته من ستة آلاف قاض، قبل أن يحكم عليه بالإعدام فقال لتلاميذه "لن أرفض فلسفتي حتى ألفظ النفس الأخير".

وكانت تقوم فلسفته، كناقد اجتماعي وإصلاحي، على تقويض المفهوم الجماعي الذي انتهجه الآخرون، والذي كان شائعاً في اليونان بأن القوة تصنع العدل، ومحاولته تغيير مفهوم العدل الذي ينتهجه الأثينيون، وذلك عن طريق الحوار، فقد كان مؤسس الفلسفة السياسية أو علم الأخلاق والفلسفة الأخلاقية، مثلما حاول الراحل د. نصر أبوزيد تجديد الخطاب الديني في هذا العصر وتغيير المفاهيم الجماعية لهذا الخطاب.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top