صراع الاجيال وخريطة الناخبين في ايران


نشر في 11-06-2009
آخر تحديث 11-06-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد تكتسب خريطة الناخبين أهمية استثنائية مع اقتراب موعد الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الإيرانية يوم غد الجمعة، ومرد تلك الأهمية أن تحليل الحراك الانتخابي في إيران لا يمكن إرجاعه إلى التمايزات الفكرية والإيديولوجية بين المرشحين الأربعة فقط، إذ لا تكفي وحدها لتعيين بؤر الاستقطاب الانتخابي بسبب حالة السيولة الإيديولوجية النسبية التي تميز أجنحة النظام السياسي الثوري في إيران. يسمح النظام السياسي الإيراني بمساحات وهوامش للاختلاف في الرؤى السياسية والاقتصادية للتيارات والمرشحين، ولكن دون أن يرقى ذلك إلى مرتبة الخلاف الإيديولوجي الكامل، فالتيارات كلها ورموزها من المرشحين تنضوي بالنهاية تحت عباءة النظام وتستمد مشروعيتها من مشروعيته. ولا يغيب في هذا السياق ملاحظة أن المرشحين الأربعة تم قبولهم من «مجلس صيانة الدستور» (شوراي نكاهبان)، وهو المجلس الذي يتم تعيين نصف الأعضاء فيه من قبل مرشد الجمهورية مباشرة. وظيفة المجلس المذكور في انتخابات الرئاسة تتلخص في فحص صلاحية المرشحين من ناحية الإيمان بمبادئ الدولة الإسلامية ونظرية «ولاية الفقيه» الحاكمة في إيران وإجازتهم للترشيح، وبالتالي فالمرشحون الأربعة تمت الموافقة عليهم من الدوائر العليا للنظام والفوارق الإيديولوجية بينهم وإن كانت حاضرة إلا أنها ليست مصيرية أو تأسيسية.

تباينات «الجندر»

نستطيع إسناد التحليل إذن على وجود تمايزات في السلوك التصويتي بين المجموعات الانتخابية المختلفة في إيران، وهذه التمايزات لا تنحصر في «الفوارق الإيديولوجية» فقط، وإنما تتوزع على مجموعة من العناصر أهمها: أولاً التمايز الكلاسيكي بين شرائح وطبقات المجتمع المختلفة، وثانياً الاختلافات الاجتماعية-الثقافية بين الريف والمدن الكبرى، وثالثاً تباينات «الجندر»، أي بين الرجال والنساء، ورابعاً وليس آخراً التنافس بين الأجيال المختلفة داخل المجتمع الإيراني. تقول القاعدة الأساسية في تفسير السلوك التصويتي للناخبين، في أي بلد، إن الخلفيات الاجتماعية للناخبين تتحكم أساساً في اختياراتهم الانتخابية، وإن هذه الانتماءات الطبقية بالتحديد تجسِّد الاستقطاب الأساسي بين الناخبين المختلفين، وهو الذي يعبر عنه في اللغة السياسية الدارجة بالتناقض بين اليسار واليمين. تنطبق هذه القاعدة الأساسية على الغالبية الساحقة من المجتمعات وبحيث يصبح لها طابع عام وصلاحية شبه مطلقة، ومع اختلاف النظم السياسية وتباين المجتمعات تظهر خصوصيات لكل بلد في خريطته الاجتماعية، ولذلك يصبح التحليل المقتصر على الاستقطاب بين ثنائية اليسار واليمين في إيران مبتسراً وفاقداً لمعانيه وطبقاته التحليلية الأعمق.

الشعبوية والتقشف

يبدو أن هناك غالبية واضحة من الشرائح الاجتماعية المتوسطة والعليا في إيران قد حسمت خياراتها ناحية المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي، وذلك بسبب الكفاءة الاقتصادية والإدارية المعروفة عنه إبان رئاسته للوزراء في الفترة من عام 1981 حتى 1989. كما أن الإخفاقات الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم في السنوات الأربع الماضية بإيران على رغم توافر مداخيل النفط المرتفعة في الفترة نفسها (تقدر بحوالي 250 مليار دولار)، يجعل المحصلة هزيلة للرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد. وبسبب سياسات الإنفاق الشعبوية التي يعتمدها الرئيس الحالي مثل توزيع الإعانات على الشرائح الأفقر في إيران دونما نظر إلى اعتبارات التوازن النقدي، فقد ارتفعت معدلات التضخم في الوقت الذي لم يستطع فيه نجاد تنفيذ وعوده الانتخابية التي قطعها على نفسه قبل أربع سنوات والخاصة بوضع عوائد النفط على موائد الإيرانيين. لذلك يمكن القول ببعض التبسيط بأن الشرائح الأفقر ربما تكون أكثر انجذاباً نحو نجاد، وسياساته الاقتصادية، ومظهره المتقشف، ومغازلته اللفظية لهذه الشرائح. أما شرائح التكنوقراط والشرائح الوسطى فمن الواضح أن غالبيتها قد حسمت خياراتها لمصلحة موسوي، في حين ستعزف أقليتها عن المشاركة في الانتخابات، وهو سلوك يعكس رغبة هذه الأقلية في فتح الأسواق الإيرانية وتغيير المنطلقات الأساسية للاقتصاد الإيراني، تلك التي تفسح دوراً مهماً للقطاع العام في إدارة العملية الإنتاجية.

شرطة الأخلاق

يميز سكان المدن الإيرانية الكبرى، وبالتحديد في طهران وأصفهان وتبريز، أنفسهم بسلوك تصويتي داعم للتيار الإصلاحي ورموزه، ويعود ذلك إلى تفضيلهم التقليدي لنمط معيشي يحتوي على قدر كبير من الحريات الفردية والعامة. ولما كانت غالبية الخدمات الثقافية من مسارح ودور سينما ومعارض كتب وأزياء تتركز في المدن الكبرى، يتخوف سكانها من أن انتصار التيار المحافظ ربما يهدد هذه الحريات عبر إسناد صلاحيات أوسع لما يسمى في إيران بـ»شرطة الأخلاق» التي تنتشر في المدن الإيرانية الكبرى وتتدخل لفرض السلوك الإسلامي على مواطني هذه المدن. ولذلك لم يكن غريباً أن يتعهد المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي بإلغاء «شرطة الأخلاق» في حال انتخابه ليخاطب طموحات سكان المدن الكبرى، كما أن فريقه الانتخابي يركز في دعايته على استلهام المشروعات الكبرى للمدن الأوروبية مثل القطار السريع الذي يسير بالكهرباء والذي يربط بين المدن، والتلميح إلى الرغبة في ربط المدن الإيرانية الكبرى ببعض عبر مشروعات مماثلة. وفي المقابل يظهر التباين الاجتماعي- الثقافي بين سكان المدن وسكان الريف والمحافظات النائية عند ملاحظة الميول المحافظة لسكان الريف الإيراني الذين يرون في الرئيس الحالي ممثلهم الطبيعي بين المرشحين الأربعة، لأن الرئيس نجاد حرص طوال فترة رئاسته على زيارة المحافظات الإيرانية النائية والريف الإيراني. ولا ننسى أن فترة نجاد شهد فيها الريف الإيراني تنامياً جلياً في مشروعات البنية التحتية الموجهة للريف مثل إنشاء الجسور وتعبيد الطرقات بين القرى، كما أن نجاد دأب على توزيع إعانات مالية مباشرة على فقراء الريف، وهو ما يزيد من شعبيته بين صفوف سكان الريف الإيراني عموماً والفقراء منهم خصوصاً. ووعياً من المرشح الإصلاحي بنقطة قوة نجاد في المحافظات النائية والريف الإيراني، فقد كثف حملاته في الأيام العشرة الأخيرة قبل الانتخابات بغرض تحييد أكبر عدد ممكن من الأصوات التي يمكن أن تصوت لنجاد.

الانحياز للمرأة

تتمتع المرأة بهامش كبير من الحركة في المجتمع الإيراني- على العكس من «الكليشيهات» السائدة خارج إيران- كما أن المرأة الإيرانية (معصومة ابتكار) وصلت تاريخياً إلى منصب نائب الرئيس في عصر الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي. ولا يعني ذلك أن النساء الإيرانيات كلهن سيصوتن ضد المرشحين المحافظين، فهناك رموز نسائية محافظة تشدد على دعم الرئيس نجاد أيضاً، ولكن الغالبية الواضحة بين النساء الإيرانيات سيصوتن لمصلحة التيار الإصلاحي ومرشحيه سواء مير حسين موسوي أو مهدي كروبي. والملاحظ أن كلا منهما يرسي دعايته الانتخابية على حضور زوجته الكبير في الاحتفالات الانتخابية سواء السيدة زهرا رهنورد زوجة موسوي أو السيدة فاطمة كروبي زوجة مهدي كروبي. ولعل وعي المرشح موسوي بالانحياز التقليدي للمرأة الإيرانية نحو التيار الإصلاحي، يبرر الحضور الدائم للسيدة زهرا راهنورد إلى جانب زوجها في الاحتفالات الانتخابية في ظاهرة غير مسبوقة في الانتخابات الرئاسية الإيرانية. ومن المتوقع أن يؤثر ذلك بشدة على المرأة الإيرانية ويجعلها تصوت لمصلحة موسوي، مقابل نجاد الذي تمنعه ميوله المحافظة من اصطحاب زوجته في الاحتفالات الانتخابية المختلفة.

الجيل الثالث للثورة

يلعب التباين بين الأجيال الإيرانية المختلفة دوراً كبيراً في بلورة استقطابات المجتمع الإيراني عموماً والكتلة الناخبة خصوصاً، وتنطلق غالبية التحليلات السياسية-الاجتماعية لإيران الثورية في الدوائر الأكاديمية من أن أجيال الشباب الإيراني تتناقض مع القيم والمنطلقات الأساسية لأجيال الثورة الإيرانية الأولى. وفي هذا السياق يبدو سلوك «الجيل الثالث» للثورة، الذي لم يشهد الثورة قبل اثنين وثلاثين عاماً ولا تأسيس الجمهورية قبل ثلاثين عاماً ولا حتى الحرب العراقية-الإيرانية التي انتهت قبل عشرين عاماً، محدداً في مسير الانتخابات الرئاسية القادمة ومصيرها؛ ويقصد بالجيل الثالث هنا الفئات العمرية الواقعة بين 16 عاماً و30 عاماً. ولأن الحد الأدنى للتصويت يبلغ ستة عشر عاماً فقط طبقاً لقانون انتخابات رئاسة الجمهورية، يجعل هذا العمر المنخفض نسبياً حصة الأجيال الشابة في إيران التي يبلغ عمرها أقل من ثلاثين عاماً تناهز 45% من إجمالي الكتلة الناخبة البالغ عددها 48 مليون ناخب. وإذ يقدر متوسط المشاركة في الانتخابات الرئاسية الإيرانية حيزاً يتراوح بين سقف أدنى قدره 60% وسقف أعلى يبلغ 65%، فالمتوقع أن تناهز الكتلة المشاركة في الانتخابات يوم الجمعة القادم حوالي 30 مليون إيراني أو أقل قليلاً. وتقول الإحصاءات الرسمية الإيرانية أن عدد الشباب المشاركين في الانتخابات لأول مرة يوم الجمعة القادم، سيصل إلى ستة ملايين ناخب.

صراع الأجيال

يختلف جيل الشباب الإيراني عن بقية الأجيال من نواح اجتماعية وثقافية عدة، فهو أكثر تعليماً، وأكثر انفتاحاً على الغرب والعالم مقارنة بالأجيال الأكبر سناً، كما يستخدمون وسائل الاتصال الأكثر تقدماً في العالم. فطلاب الجامعات الذي لعبوا أهم الأدوار في حياة إيران السياسية منذ بداية الثورة وحتى الآن، هم المدد الأساس للتيار الإصلاحي. وحسب التقديرات الإحصائية يتداخل اعتبار الأجيال مع اعتبار «الجندر» هنا، لأن الإناث يمثلن غالبية هذا القطاع الكبير من الكتلة الناخبة. حسم الطلاب المعركة الانتخابية لمصلحة الرئيس خاتمي عامي 1997 و2001، ولكن هذا الجيل نفسه عزف عن المشاركة في انتخابات 2005 اعتراضاً على عجز التيار الإصلاحي عن فرض الإصلاحات وخيبة أملهم من عجز خاتمي عن تحقيق أمانيهم السياسية. ومع افتقار المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي (67 عاماً) ومهدي كروبي (72 عاماً) إلى كاريزما خاتمي (54 عاماً وقت انتخابه لأول مرة)، وإلى تأثيره الكبير في فترة رئاسته الأولى، فمن المتوقع أن يعزف أيضاً قطاع لا يستهان به من هذه الشريحة عن المشاركة في الانتخابات. ونظراً للسخط التقليدي الذي يميز شرائح الشباب، فمن الطبيعي أن يحاول المرشحون المختلفون استقطاب أصوات الشباب أولاً، أو تركيز دعايتهم على تنفير الشباب من المرشح المنافس في الحد الأدنى. ومع تزايد المصاعب الاقتصادية التي يركز عليها موسوي وكروبي للنيل من نجاد عبرها، فمن المرجح أن يتجه قطاع كبير من شرائح الشباب إلى التصويت ضد نجاد كأصوات الاعتراض.

وبسبب حصتهم الكبيرة في الكتلة الناخبة بشكل عام والكتلة المتوقع مشاركتها في الانتخابات فعلياً، يتوجب على الفائز بالانتخابات الرئاسية أن يحصل على نسبة كبيرة من الدعم بين هذه الشريحة من الناخبين. ويعني ذلك في النهاية أن صراع الأجيال هو الذي سيقرر إلى حد كبير نتيجة انتخابات الغد، قبل اعتبارات الخلاف الإيديولوجي، أو ثنائية الذكر والأنثى (الجندر)، أو حتى التمايزات الاجتماعية الثقافية بين سكان المدن والريف في إيران، وكلها اعتبارات تلعب دوراً كبيراً في الانتخابات الرئاسية الإيرانية؛ ولكن الدور الأكبر في حسم نتيجة الانتخابات غداً يظل معلقاً في رقبة الأجيال الإيرانية الجديدة.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة 

back to top