شفق ورجل عجوز وصبي

نشر في 26-06-2009
آخر تحديث 26-06-2009 | 00:00
 محمد سليمان لا نستطيع أن نتخيل مهناً أخرى لمعظم الروائيين وكتاب القصة القصيرة، فقد وُلدوا لكي يقصوا في الشوارع والمقاهي وعلى الورق قبل ذلك وبعده، وقد أهدر القاص محمد مستجاب العديد من قصصه التي استمتع بالحديث عنها وقصها علينا في المقاهي ثم نسي أن يكتبها، ومعظم المقالات التي تنشرها بعض الصحف لإبراهيم أصلان تقع في دائرة المقال القصة بينما يخدعك القاص سعيد الكفراوي عندما تساهره أو تجالسه، فيبدأ الحديث عادة عن قريته أو عن صديق مشترك أو كتاب ما، ثم فجأة ينسل بخفة ومهارة الساحر إلى عالم القص الفني الخالص.

كنت في البداية قبل ما يقرب من ثلاثة عقود أظنه مخبولاً جميلاً عاجزاً عن التركيز وإحكام قبضته على أحاديثه، حتى اكتشفت هوسه بفن القص وضبطته أكثر من مرة متلبساً بتلك القفزة الساحرة من عالم أحداثنا اليومية المألوفة إلى فضاء القص الفني لكي يرتجل قصة ما.

سعيد الكفراوي هو أحد كتاب جيل الستينيات المتميزين، وقد صدرت له في ربع القرن الأخير مجموعات قصصية عديدة، منها «مدينة الموت الجميل- مجرى العيون- بيت للعابرين- كشك الموسيقى- ستر العورة- سدرة المنتهى» وغيرها، كما صدرت له في الفترة الأخيرة عن دار الشروق مختارات قصصية بعنوان «شفق ورجل عجوز وصبي» تضم أكثر من ثلاثين قصة تمثل رحلته الإبداعية ومعظم علامات تميزه، ويشير عنوان المختارات إلى الزمن كبطل لمعظم قصص الكاتب المولع بالرحيل في الزمن، وتأمل فاعليته ورصد تحولات الإنسان والمكان وتبدل العوالم، والسعي من ثم إلى الإمساك بالمندثر والواقف على حافة الغياب.

في معظم القصص سنواجه الثنائية التي تجسد هذا الولع وتفجره، العجوز والصبي أو الكهل والطفل أو الجد والحفيد وأحياناً تتوارى هذه الثنائية لتجسد الذاكرة حجم ومدى التحولات كما في قصة «الأمهري» وبطلها الذي تجاوز السبعين، ويقيم في الإسكندرية كأحد أبنائها البسطاء، لكن صورة معلقة على الحائط لأحد القديسين توقظ ذاكرته وترحل به إلى الوراء في الزمن «آه.. مهو أنا حبشي.. خطفوني زمان من الجبال، وباعوني لراجل طيب من اسكندرية رباني وأكرمني، كل اللي فاكره إن الجبال كانت خضرة وكنت برعى غنم على تلة مالهاش آخر، وكنا يوم الأحد ندخل حاجة زي البيت القديم ولها برج ونقعد على دكك من جذوع الشجر، وكان البيت ده منور بالشموع، وكانت أجراس بتدق...». وتنتهى القصة والأمهري أو العم علي الذي يزهو بأنه مسلم وموحد بالله يغوص أكثر في آبار الزمن لكي يتذكر لغته الأولى ودينه وهويته الضائعة.

وتُبرز بشكل لافت ولع الكاتب بالرحيل في الزمن والحفر في الذاكرة قصة «الجمعة اليتيمة» فبطلها الحفيد معتقل سياسي تبخر اسمه في السجن ومعه آدميته، وتحول إلى مجرد رقم في دفاتر السجن وأفواه السجانين، لكنه يقاوم بالتذكر وباستعادة طفولته وقريته «مزلاج الصباح والمساء الحديدي في رحلة الانسحاب إلى الخلف يصرخ صرخته الصدئة التي تنفذ إلى رأسي الواقع على صدري، يد مدكوكة سمينة ذات أصابع مدربة تدفع المزلاج.. كانت فتحتا قدميه تشكلان الرقم ثمانية، خلفها يتألق ضوء النهار.. نفذت من خلال الفتحة وركبت الهواء، كنت هناك في غيطنا القديم في حديقة برتقالنا في عز نضجه.. كنت هناك على شاطئ البحر الشديد الزرقة...». وعندما يستعيد الحفيد طفولته تبرز الجدة من متاهة الماضي لكي تسافر بدورها في زمن أبعد باحثة عن شبابها وزوجها «الجد» الذي انتزع منها ورحل مع غيره إلى البلاد البعيدة لحراسة جسور النيل ومواجهة أخطار الفيضان «قالت لي جدتي إن جدي كان شهماً وكان سيد الرجال، قلت لها: يا جدتي لماذا هذه الجمعة يتيمة؟ قالت: في ليلة جاء رجال غرباء وأخذوه من حضني قلت لهم.. متى يعود؟ حدجوني ومضوا به.. قلت لها: لماذا هي يتيمة يا جدتي؟ قالت: إنها ظلت تبحث عنه وعندما أجابوها قالوا: إنه سافر مع السلطة ليحرس جسور النيل البعيدة، وقالت: إن جدي لم يعد أبداً وعندما مات لم يعرفوا قبره، وإنهم دفنوه في جسر النيل في قبر من الطمي، وقالت لي: إنها من يومها وهي بلا رجل...».

بالارتحال في الزمن يقاوم الحفيد قسوة السجن وضراوته وتقاوم الجدة مرارة الفقد والوحشة ويحاولان بالحنين محاصرة الغياب والتشبث بكثافة الوجود وتوهجه.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top