الأرحام... قاطعها ملعون وواصلها مأجور
قسم فقهاء الشريعة الإسلامية العهود إلى قسمين، عهود مؤقتة ترتبط بحسب دوافعها وزمانها ويكون العباد بفعلها مخيرين، وعهود مؤكدة، وهي التي أوجبها الشرع على العباد في كل وقت وأي مكان مهما اختلفت الحوادث والأزمنة، ومن أهم هذه العهود صلة الرحم.وفي هذا المعنى يقول د. محمد المختار المهدي (عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر) إن تأكيد الشارع إلزامية صلة الأرحام نابع من وحي القرآن والسنة، وحكمة المولى في تأكيد هذا العهد الغليظ في أكثر من معرض في القرآن الكريم منبعها أن فطرة الإنسان السليمة لا تستقيم وهو قاطع رحم، لأن حياة الإنسان تقوم على التعايش والتواد والتراحم، وإلا أصبحت الدنيا ساحة للصراعات كما كان حادثاً قبل الإسلام.وصلة الرحم التي أوصت بها الشريعة هنا لا تغذي النزعة القبلية، كما يدعي بعض المفكرين في الغرب، بل حددت الشريعة طبيعة هذه العلاقة للقضاء على هذه النزعة التي كانت موجودة في العصر الجاهلي، والتي عانتها أوروبا نفسها في العصور المظلمة، فقد كانت تشتعل فيها الحروب بسبب محاولة عرق السيطرة على عرق.
ومازالت هناك نماذج من هذه العلاقة المذمومة مثل النموذج الإسرائيلي، فهي دولة تقوم على أساس ديني يأخذ الشكل العرقي.كل هذه الأشكال من صلة الرحم أو الترابط عن طريق العرق بمثل هذه الصور ذمته الشريعة بل سعت إلى تغييره، بوضع ضوابط سليمة لهذه العلاقة أو هذا العهد، فالرحم الذي أراد الله وصله يبدأ بالوالدين ثم الجدين والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم وأبناء أبنائهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأقرب فالأقرب» وإن علا النسب ليشمل العشيرة، فالقبيلة فالقوم فالأمة، بيد أن هذا التواصل يكون في شكل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكف الأذى عن ضعفائهم والحد من شرور أقويائهم، في إطار قوله تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ» الإسراء 26. هذه هي الضوابط التي أقرتها الشريعة الإسلامية لتحكم العهد الموثوق. في السياق ذاته يحدثنا الشيخ علي عبدالباقي (أمين عام مجمع البحوث الإسلامية) عن ترشيد الإسلام لصلة الأرحام حتى لا تأخذ صورة معنوية فقط، فمنها صور عملية مثل الوصية، والوصية من باب الأمانات وقد اؤتمنت الأمة الإسلامية على دينها والحفاظ على سنة نبيها (صلى الله عليه وسلم) ولن يتأتى هذا الحفاظ إلا إذا أوصت به الأم أبناءها جيلاً تلو الآخر، وهذه هي الوصية الأولى في الإسلام التي نمت بين الأقارب والعشائر وقويت بها صلات الأرحام بين الشعوب والقبائل، حتى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصى بأهل مصر خيراً لأنهم أصحاب «ذمة ونسب» أصحاب ذمة لأن أم إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وسلم) مارية القبطية من مصر، وأهل رحم لأن هاجر أم إسماعيل عليه السلام منها، فالوصية من أهم صور صلة الأرحام، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «رفقاً بالقوارير» أي النساء.وقال عبدالباقي إن أول ما يبدأ المسلم بصلته من أهله بعد أبويه هم اليتامى ثم العجائز ثم الفقراء والأقرب منهم فالأقرب، موضحاً أن صلة الرحم في هذا الشكل واجبة حتى وإن كان هؤلاء الأقربون كفاراً بل إن المولى عز وجل قدم صلة الرحم في هذا الشكل على الجهاد، والعلة في ذلك أنك لو كنت قاطع رحم معادياً لأهلك إن كانوا كفاراً لخانوك وباعوك لمن يحاربك من أعدائك، فالأولى أن تصل أرحامك حتى يكونوا لك عوناً ضد من يعاديك.من جانبه يقول د. عمر الديب (وكيل الأزهر الأسبق) إن فوائد صلة الرحم على الإنسان عديدة فهي تزيد المحبة وتزيل العداوة، وتبسط الرزق وتبارك في العمر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: «مَنْ أحب أن يُبسَط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه». وقد أجمع علماء الأمة على أن من يتصدق على قريبه له أجران، أجر الصدقة وأجر القرابة.وعن قطيعة الرحم يقول الديب: «إن ذوي الأرحام غير معصومين فقد يقعون في الخلل وتصدر منهم هفوات وفي بعض الأحيان يقعون في كبيرة، فإن بدر منهم شيء كهذا يكن العفو خير وسيلة للعلاج، فالعفو من شيم المحسنين، فإن أساءوا أحسن وإن اعتذروا قبل، فهذا ما فعله نبي الله يوسف مع إخوته عندما اعتذروا قبل وصفح عنهم الصفح الجميل، ولم يوبخهم بل دعا لهم بالمغفرة.ويضيف: قطع الرحم من الكبائر التي أجمع عليها أهل العلم لقوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)»، كما قال تعالى: «وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ».